محمد بندق.. يعرض تاريخ السينما في شوارع الإسكندرية

جمع 250 ماكينة وأفلاما من بدايات الفن السابع في العالم

بندق.. بقبعته الشهيرة أمام إحدى ماكيناته
TT

«الفن جنون وعشق أيضا».. تحت مظلة هذه العبارة وعلى طريقة عازف البيانولا الشهير، يحمل محمد بندق (40 سنة)، ماكيناته السينمائية التي تعود إلى 100 عام خلت، يجوب بها شوارع الإسكندرية ويغوي الأطفال والكبار لمشاهدة قصص وحكايات ممتعة.

يقف بندق مرتديا قبعة إنجليزية وكأنه ساحر الصورة السينمائية، ووسط لهفة المارة يدير ماكيناته العتيقة ليعرض أفلاما على جدران البنايات القديمة التي تضفي سحرا وأجواء سينمائية لا مثيل لها. التقطته «الشرق الأوسط» في ساحة الدكان في حي المنشية يعرض فيلم «جسر الشيطان»، وهو فيلم أميركي نادر عمره 85 عاما، ومجموعة من أفيشات الأفلام المصرية القديمة وصور «البرس بوك» الخاصة بها، يشرح للمارة أنواع ماكينات العرض السينمائي وطرق عملها وتطورها، فيقول: «ماكينة جيمون أميركية باللمبة والشمعة، شغل يدوي، وتوضع الشمعة بداخل العلبة، ولا بد أن يظل أحد العمال ممسكا بفانوس، وهناك حدافة مهمتها قطع الكادر. وكانت الماكينة تعرض صورة فقط دون صوت لفيلم تكون مدته 10 دقائق. واستغرقت مني 7 شهور لترميمها في محاولة للبحث عن مكوناتها الأصلية، وسأشغلها صوتا وصورة وسأجعلها كأي ماكينة سينما حديثة».

وبخفة يستطرد وسط دهشة الجمهور: «ماكينة (زاي) ألمانية عمرها نحو 70 سنة، الحامل الخاص بها من خشب الخيزران وتخرج صوتا وصورة، محرك الصورة يوضع لها 2000 وات تخرج صورة 4×4 أمتار، في صالة عرض مساحتها 30 مترا، لكن حدثت طفرة في ماكينات العرض السينمائي وأصبحت الماكينة 16 ملم، وتشغل صوتا وصورة. وكان الصوت يخرج بشكل بدائي، واليوم كل هذه الماكينات اليدوية غير موجودة».

بندق رغم مهارته في الشرح وجذب الجمهور فإنه لا يعرف القراءة والكتابة، وعن رحلته مع هذه الهواية قال لـ«الشرق الأوسط»: «الحكاية بدأت من 30 سنة، في سينما بلازا الشهيرة بشارع فؤاد، عندما شاهدت أول فيلم في حياتي، بهرتني الماكينة التي تقبع في الخلف وتعرض صورة وصوتا. تصادقت مع فراش السينما، وكنت أدفع أموالا له لكي يجعلني أساعده في تنظيف السينما، لكي أمتع عيني بمشاهدة ماكينات العرض، ثم تعرفت على الميكانيكي المسؤول عن إصلاح وصيانة ماكينات العرض السينمائي، وعلمني وأصبحت (صبي ميكانيكي)، أساعده. والغريب أنني تفوقت عليه وأصبحت أفضل منه، وقمت بإصلاح وتشغيل ماكينات كثيرة، وحاليا الحمد لله أمتلك مهارة ترميم ماكينات يتراوح عمرها ما بين 80 إلى 100 سنة، ومن هنا ظهرت أمامي فرص لشراء الماكينات القديمة».

يكمل بندق حكايته مع عشق السينما قائلا: «أول ماكينة اشتريتها كانت 9.5 ملم، حصلت عليها من مصور سكندري شهير هو عم فاروق، الذي كان يملك استوديو تصوير، ثم حصلت على واحدة 16 ملم وكانت فرحتي بالدنيا وما فيها، كنت سعيدا بها لدرجة كبيرة، واستمرت الحكاية إلى أن جاء وقت أصبحت أملك فيه نحو 250 ماكينة».

ويضيف: «حاليا حينما توفي عم فاروق آلت إلي ملكية الاستوديو، وأضع به كاميرات السينما، وهي تعود إلى بدايات السينما في الإسكندرية. أفتح الاستوديو يوميا وأطمئن على الصور، ولو سمعت عن صور قديمة ونادرة لدى أحد أجري وراءها».

يبتسم بندق وهو يتذكر: «والدي كان يحب السينما أيضا، وكان عنده ماكينتان 35 ملم و16 ملم، لكنه كان رافضا لهوايتي في جمع الماكينات والأفلام، ونصحني: (وفّر فلوسك أحسن)، لكن من ساعتها كل ما أكسبه أضعه في أي شيء يخص السينما. وحينما أجريت عملية لتوسيع الشريان وصّيت أولادي قبلها على الماكينات والأفلام وقلت لهم: إياكم والتفريط في الأفلام، سيأتي وقت تعرفون قيمتها، ليس ماديا لكن سترفع من كيانكم بين الناس، المال يأتي ويذهب ونحن من يصرفه، لكن هذه الأشياء قيمتها لا تقدر بثمن». وعن هدفه من العرض في الشارع يؤكد: «أريد أن يعرف الناس قيمة هذا الفن وجماله، وأريد أن يشاهدوا تاريخنا وعظمتنا، السينما الآن بعيدة تماما عن الفن الذي عرفناه. وأرى أنه من المهم أن يقدر الناس قيمة السينما لكن الناس يهتمون بالرقص والكلام (الفاضي).. نفسي أعرّف الشباب والناس أن هناك صناعة حلوة اسمها السينما، الموبايل الآن خرب عقول الناس. أوجه رسالة إلى الجيل الحالي، إذا أردت أن تتعرف على القيم والاحترام والأدب، شاهد الأفلام الأبيض والأسود. أنا عندي كل الأجهزة، لكني لا أتفرج في البيت إلا على سينما 16 و35 ملم. حتى ابني وابنتي خصصت لكل منهما ماكينة عرض لأغرس فيهم حب السينما».

يتعامل بندق مع ماكيناته وكأنه أُمّ تحنو على طفلها، لا تطيق أن يمس فلذة كبدها أي مكروه، فهو يعتبر السينما حياته، ويعشق الأفلام الأبيض والأسود، وعلى حد قوله: «لما تضيق بيا الدنيا أشغل فيلم قديم. ولما أعوز أتعلم شيء جديد أتفرج على فيلم قديم أتعلم منه حكمة أو شيء أتعامل به في حياتي».

وعن طريقة حصوله على تلك الماكينات قال: «أنا زبون دائم على الأسواق الشعبية، وحينما أجد أي ماكينة أشتريها، حتى بآخر قرش في جيبي. وأنا أنبه إلى مشكلة كبيرة هنا، وهي أن قراصنة الخردة يقومون بشراء الأشياء القديمة وتدميرها للحصول على ربع كيلو نحاس أو فضة، أنا أناشد الناس أن يهتموا بالأشياء القيمة بدلا من أن يتم تهريبها إلى الخارج».

يتباهى بندق بأنه يملك أول أفلام قدمها صناع السينما الأميركيون الأوائل، فضلا عن أول فيلم سينمائي في العالم وهو «الخروج من المصنع» للأخوين لوميير، ويؤكد أن لديه أفلاما 9.5 ملم وهي التي تمثل صناعة الأفلام الأولية في العالم كله، ويقول: «عندي فيلم لعلي الكسار لا أحد سمع عنه، اسمه (خطف طاقيتي)، صديق لي عثر عليه في تركيا، ولم يكن يعرف قيمته. وأتحدى أي شخص سمع عنه، حتى إني أمتلك أفلاما لا أعرف أسماءها، ومن النوادر السينمائية أيضا عندي أفلام: (أولاد الفقراء) لأمينة رزق ويوسف وهبي، و(العزيمة) و(حلال عليك)، وفيلم (هات وخد)، و(عثمان الجبار) العربي.. عندي أكثر من 60 فيلما عربيا نادرا، والإنجليزي أكثر بكثير».

وحين سألته لماذا لا يتكسب من هذه الثروة رد بحدة: «أنا روحي في الأفلام القديمة، وأرفض أن أبيع للألمان والأميركان والأجانب بشكل عام أي فيلم، لأني أعرف أن هذا تاريخ ويجب أن أحافظ عليه، وهذا مبدأ أسير عليه أنا وأصدقائي من المهتمين بالسينما، ونحن مجموعة في القاهرة والمنوفية والإسكندرية، كلنا نعشق السينما».

وعن مقتنياته التي جمعها خلال رحلة عمرها 30 سنة، قال: «عندي 160 راديو وبيك أب وغرامافونات، أشكال وألوان تمثل تطور الراديو والكاسيت، وعندي مجموعة أفلام وثائقية نادرة، منها فيلم خروج الملك فاروق من مصر، حتى إن الضابط الذي كان يحمل الأمير أحمد فؤاد ويعطيه للملك قد شاهد الفيلم عندي. كذلك أملك مجموعة من صور برس بوك لأفلام (اللص والكلاب)، و(حياتي هي الثمن)، و(أحمر شفايف)، و(خطف مراتي)، و(عفريته هانم)، و(زمردة)، وغيرها. وأفضّل عرضها للناس ليستمتعوا بالزمن الجميل».

ويتمنى بندق أن يعرض للناس الأفلام الوثائقية التي يقتنيها عن الإسكندرية وزعماء مصر والعالم العربي، لكنه يطالب بمؤسسة تتبنى حملة لجمع المقتنيات القديمة وتساهم في الحفاظ عليها ووضعها في متحف يكوّنه كل من يملك شيئا قيّما ونادرا، ويكون عليه اسمه، ويقول: «نفسي يكون معايا فلوس زيادة علشان ألمّ المكن والأفلام وأحافظ عليها من الضياع». ويؤكد بندق بمنتهى الحماس: «الفترة القادمة سأقدم عروضا يومية في الشارع لأفلام وفوتوغراف وملابس وأزياء قديمة.. وأشوف رد الفعل حيكون إيه، يا أتاخد إزالة من البلدية، يا إما يهتموا بيا».