«مهرجان الرقص المعاصر» يجوب 4 عواصم عربية وجمهوره بالآلاف

«ساشا فالتز» تدهش مشاهديها في بيروت قبل أن تنتقل إلى دمشق والقدس

مشهد من عمل ساشا فالتز «زويلاند» («الشرق الأوسط») ومهرجان بيروت للرقص المعاصر ونجاح بفضل مصداقيته
TT

«الصالة تمتلئ كل يوم والتذاكر كلها تباع، ونحن نحرج من الناس، ولا نعرف أين نجلسهم، لذلك نطلب منهم أن يأتوا مبكرين»، يشرح لنا عمر راجح، وهو يحاول أن ينظم الدخول إلى الحفلة الثانية التي أحيتها فرقة «ساشا فالتز» الألمانية في «مسرح المدينة»، مفتتحة بعرضها الجميل «زويلاند» «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» في دورته السادسة. فقد تحول هذا المهرجان إلى لحظة انتظار حقيقية للكثيرين، على ما يبدو. العام الماضي، حضر الحفلات ما يزيد على ستة آلاف شخص. وهذه السنة في أول حفلتين كان العدد قد وصل إلى الألفين ولا يزال هناك أسبوعان من العروض.

بعض هذه العروض، ستجول في رام الله وعمان ودمشق، حيث تقام مهرجانات موازية للرقص المعاصر. في فلسطين، سجل المهرجان نجاحات كبيرة تشبه المعجزة في السنوات الماضية، رغم الاحتجاجات عليه. «في بيروت هذا العام الانطلاقة مشجعة للغاية»، يقول الراقص والفنان عمر راجح، الذي أسس التظاهرة ويديرها بحماس. «هذه السنة، أضفنا فكرة اللقاء بمصممي الرقص، والتحاور معهم، لخلق نقاشات حول الموضوع. هكذا يدرك الناس أن العرض الذي شاهدوه هو حلقة ضمن مسار طويل للفنان. هذا ما استطعنا أن نحققه خلال النقاش الذي أداره بيار أبو صعب مع المصممة ساشا فالتز في مسرح بيروت، وما سنراه في اللقاءات الأخرى. وهناك عروض فيديو وورشات عمل». على الرغم من أن الرقص المعاصر، ليس مفهوما من الجميع في لبنان أو المنطقة يقول عمر راجح «فإن الناس بدأوا يعرفون أنه فن يستحق اهتمامهم، وأنه ليس لغزا وهو بسيط وقريب من الناس. في البداية، كنا نسمع الحضور يسأل ما معنى هذا الذي رأيناه، اليوم نشعر أن الحاجز قد انكسر، يكتفون بالمتعة التي يحصدونها من المشاهدة، ويعرفون أن العروض على اختلافها، قد يفسر كل منها الآخر. هذا تقدم نحرزه سنة بعد أخرى».

لم يكن العرض الافتتاحي لهذا المهرجان، الذي قدم ليلتي الجمعة والسبت الماضيين، بالسهل على الفهم بالنسبة إلى ذائقة المتفرجين، لكنهم مع ذلك صفقوا بحماسة كبيرة، للراقصين السبعة الذين قدموا عرضا مليئا بالمفاجآت البصرية.

«ساشا فالتز مصممة العرض ومديرة الفرقة، واحدة من أبرز مصممي الرقص في العالم اليوم، وجودها في بيروت مع واحدة من مؤسسي الرقص المعاصر، مثل ماتيلد مونيه، هو أمر مهم لغاية. المتفرجون يدركون الجماليات، ويعرفون أنهم أمام فن مختلف، وفنانين يستحقون أن ترى أعمالهم».

وبالفعل، فإن الإقبال الكثيف على عرض فالتز، ربما يفسر أن الناس في بيروت يحتفون باكتشاف الكبار في عالم الرقص، حين يمرون في عاصمتهم. منذ اللحظة الأولى من هذا العرض الذي ولد عام 1997 ولا يزال يعرض إلى اليوم، أرادت فالتز أن تأسر متفرجها. رجلان على المسرح بجانب خربة مؤلفة من مجموعة أخشاب مفككة، يلتصقان ليشكلا جسد رجل واحد بيدين وأربعة أرجل ورأس واحد. الموسيقى هي لهاث الرجلين، وأنفاسهما، وتلك الأصوات التي تصدر عن تثاؤب عميق. رجل ثالث يدخل المسرح ويظل يحاول تفكيك الجسدين الملتصقين حتى يفصلهما عن بعضهما البعض، مما يتسبب في إغضابهما. إنها البداية التي ستنسج فالتز على غرارها، عرضها الذي يستمر 60 دقيقة، مستوحية تاريخ برلين الحديث، ما بين التمزق والتشتت وإعادة اللحمة إلى مدينة كسر ظهرها جدار شاهق.

الجدار حاضر على المسرح يشكل الخلفية القاسية التي تحد المكان وتجعل له كواليس يختبئ المؤدون خلفها، ويخرجون منها بعد أن يبدلوا هيئتهم ويتقمصوا أدوارهم. أمام الجدار الكبير الذي يسد خلفية المسرح، هناك أكوام الخشب التي هي عبارة عن أبواب وشبابيك وأشياء أخرى يستخدمها المؤدون ليبنوا ويهدموا أكواخهم أو بيوتهم، ويتعثروا ويقيموا حياتهم الخارجة من بين الأنقاض. «زويلاند» ليس عملا تاريخيا لبرلين الناهضة من رمادها، إنه استلهام لحياة الناس اليومية، بأفراحهم، وانكساراتهم، وغضبهم وعشقهم وسخطهم، في لحظة تحولات كبرى عاشتها ألمانيا.

المشاعر تترجمها فالتز حركات راقصة بكاريكاتورية لافتة، حيث يبدو العنف طاغيا على ما عداه، تكسره روح طفولية مرحة، وسخرية بديعة، تجعل المتفرج يقهقه رغما عنه وكأنه أمام عمل تمثيلي وقصة رغم تفككها، لا تزال قادرة على أن تروي ذاتها.

مشهديات مبتكرة، تتلاحق أمام عيني المتفرج، الذي قد لا يرى بينها أي صله مباشرة، لكنها في النهاية، حكايات أناس عاديين، يعيشون يومياتهم، ويترجمونها هنا على المسرح حركات خلابة، ولوحات متعة للفرجة.

ها نحن نرى رجلا يخرج من قلب الأنقاض الخشبية، ويأخذ يبني ما يشبه البيت، وفتيات يخرجن من وراء الجدار العالي، يحاولن إغراءه لكن من دون فائدة. محاولات فوز الفتيات الثلاث، بحب أحد الرجال لا تتوقف، وكأنها مهمة لا تأتي بنتيجة. على العكس، ثمة مشاهد تعكس عنفا في العلاقة بين الرجال والنساء. العنف الراقص هنا، وحركة الأجساد وهي تترنح وتسقط ثم تقف مرة أخرى، لتتلقى الضربات، من المشاهد الجميلة التي تظهر براعة نادرة في الأداء.

الفتيات الباحثات عن الغواية لسن جميعهن صنفا واحدا: هناك الرومانسية، وأخرى أكثر فظاظة، وثالثة تتكئ على الإغراء الجسدي. هذا يساعد في تلوين المشاهد، بحيث نجد أكثر من لوحة يرسمها الراقصون في وقت واحد على المسرح. هناك مشاهد لا تنسى، مثل محاولة أحد الراقصين التحرك في البيت أو «الكشك الذي بناه، ويتعثر في كل ما فيه، وكأنما هو يعيش زلزالا ويهوي عليه منزل كبير. قدرة فائقة على جعل العناصر الصغيرة داخل «الكشك» عدة للإيحاء بحدث كبير وهائل.

محاولة تسلق الجدار الشاهق، واستخدام السلم الذي يصبح وسيلة لإبراز الليونة والبراعة في ابتكار الحركات، يظهر مدى قدرة المصممة على استلهام اليوميات في رسم لوحاتها. العمل يخلط التمثيل بالرقص مع كاريكاتورية واضحة في الحركة، تجعل الطرافة نكهة العمل وقوامه. أما الموسيقى فهي متنوعة، قد يكون الصمت بحد ذاته هو الموسيقى، وقد يكون التصفيق بالأيدي أو وقع كعاب الأحذية على الأرض، أو حفيف الملابس وقرع الأبواب، آلات قليلة تتم الاستعانة بها على المسرح لعزف موسيقى حية مثل الأكورديون أو الفيولون، هذا عدا بعض الأسطوانات التي تدار على آلة قديمة تصبح جزءا من الديكور. أما المشهد الأبرز في هذا العمل الذي يستحق المشاهدة فيأتي في اللحظات الأخيرة. الكوخ الخشبي الصغير موجود بملاصقة الجدار المتطاول. يطل رجل من أعلى الحائط بملابس لا تعرف إن كانت لملاك هابط من السماء أم لرجل يتزيّا بزي راقصة بالية. وبمرشة كتلك التي نسقي بها حديقة البيت يأخذ يسكب الماء على الكوخ وكأن الغيث ينهال من السماء، يجتمع المؤدون أمام الكوخ وتحته وكأنما يحتمون من المطر الذي يبللهم، ويغسلهم على المسرح. إنه الخير الذي يأتي من أعلى.

هذا العرض الجميل ينتقل إلى دمشق يومي 20 و21 من الشهر الحالي، ثم رام الله والقدس يومي 24 و26، تليها القاهرة يومي 3 و4 مايو (أيار). فيما تستمر عروض «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» حتى الثاني من الشهر المقبل موزعة على أربعة مسارح هي «المدينة»، «بابل»، «بيروت» و«مونو». ويقام هذا المهرجان بشكل أساسي، بفضل دعم المراكز الثقافية الغربية له. ويعترف عمر راجح «أن مشكلة التمويل تبقى هاجسا، وقد مولتنا هذه السنة المراكز الثقافية مثل الفرنسي والإيطالي والألماني والإسباني كما السفارة النرويجية، والمجلس الثقافي البريطاني. وبفضل النجاح الذي نحققه، باتوا يضعون المهرجان كأولوية للتمويل بالنسبة إلى النشاطات الأخرى. يبقى أن وزارة الثقافة اللبنانية دعمها معنوي بينما الدولة غائبة بالكامل». وعن سبب النجاح الكبير الذي يلقاه المهرجان يقول راجح: «ليس عندي من تفسير، لكنني أعتقد أنه باتت لنا مصداقية، وهذا هو المهم، والناس حين يشترون تذكرتهم، يعرفون أنهم آتون لرؤية ما يستحق المشاهدة، وأننا ننتقي لهم الفرق والعروض بعناية، لتكون على المستوى الذي ينتظرون».