شهران من «الانطباعية» في متحف غرونوبل

في معرض «ستة أعمال لستة معلمين»

«التفريغ في آرل» 1888 لفان جوخ
TT

بعد مضي نحو قرنين على بدايتها، والاستهلاك المتواصل، جماهيريا ونخبويا لأعمالها، ووجودها المحتم في الحياة اليومية الإنسانية في كل العالم، وإبرازها لفنانيها باعتبارهم نجوما في عالم الفن التشكيلي، بحيث باتوا يعرفون في كل أنحاء العالم من الصغير قبل الكبير، لا تزال الانطباعية في الفن التشكيلي حاضرة بقوة في المشهد الفني عالميا بنجومها، كما لو أنهم عاشوا بالأمس القريب، ولا تزال لوحاتهم تشكل مصدر وحي وإلهام لكثير من الفنانين المعاصرين الذين على الرغم من التقنيات الحديثة في الفن والألوان لم يتمكنوا من إنتاج ما يضاهي هذه الأعمال جمالا وإبهارا وتقنيات، كما أنها لا تزال خاضعة للقراءة والتحليل والدراسة على الرغم من مرور كثير من الوقت وإنتاج الأطنان من الكتب والدراسات من مختلف الجوانب حولها. على هذا، فإن لرواد هذه الحركة، أو معلميها الكبار، الذين أصبحوا أعلاما في تاريخ الفن، حضورا قويا في المشهد الثقافي العالمي، وفكرة امتلاك عمل واحد لهؤلاء مسألة تحتاج إلى إنفاق كثير من الأموال بسبب ارتفاع أسعار هذه الأعمال إلى ملايين الدولارات مثل أعمال الفرنسي كلود مونيه (1840 – 1926)، وإدوارد مانيه (1832 – 1883)، وكاميل بيسارو (1830 – 1903)، والهولندي فنسنت فان غوخ (1853 – 1890)، والمعلم الأكبر لهذه الحركة بيار أوغست رينوار (1841 – 1919)، ومعهم إدغار ديغا (1834 – 1917). وعلى الرغم من أن هذه الحركة لم تقف فقط عند هؤلاء الكبار، فإنهم، والحال هذه، يعتبرون المعلمين الكبار لها؛ إن لناحية وجودهم معا في باريس منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، أو لناحية تأثيرهم في حركة الفن التشكيلي عالميا، أو لشهرتهم التي فاقت الأنحاء التي عاش فيها بعضهم حياة الفقر والعوز. متحف غرونوبل الذي يملك مخزونا كبيرا من الأعمال الفنية، يمتد من القرن التاسع وحتى يومنا هذا، يحتفي وعلى مدار شهرين بستة من كبار رواد الانطباعية. المعرض الذي يحمل عنوان «الانطباعية، ستة أعمال.. ستة معلمين» يحمل أبعادا ثقافية وفنية راقية وكبيرة. تم بذل جهود خاصة لجمعها في معرض واحد، فقد تم استقدام ثلاث لوحات من مؤسسة «غالوست غولبنكيان» في لشبونة، وهي من أهم المؤسسات التي تقتني الأعمال الفنية على مستوى العالم، في حين أن اللوحات الثلاث المكملة للمجموعة استقدمت من متحف «تايسن بورنيميزا» الإسباني. وهي أعمال تعد ثورية في عالم الانطباعية لما تمثله من قيم فنية عالية لناحية إدماج الألوان وتفتيت الضوء، وهي تقنية عارضت في وقتها وزمنها النظريات الفنية التي بنيت على تركيز اللون والضوء معا كوحدة فنية متماسكة. وعلى هذا، تجمع هذه الأعمال ميزة قلما تجمعها الأعمال الفنية الأخرى، وذلك كونها أثرت بشكل ملموس على حركة الفن والحداثة الفنية. جمع هذه اللوحات في مكان واحد، يتجاوز كونها ثورية فقط؛ بل يمتد إلى قصة كل لوحة من هذه اللوحات على حدة، ويمكننا تخيل قصة كل فنان من هؤلاء أيضا، كيف قضى حياته وعاشها، من كان بالتحديد هذا الذي غير في تاريخ الحركة الفنية من خلال لوحاته ومخيلته. العيش مع هذا التاريخ، وإن كان فرديا، يمدنا بانطباعات تثري المعرفة الشخصية لكل متذوق لتاريخ الفن ولحركية الفن الحديث والكلاسيكي في العالم. يعبر إدوارد مانيه في لوحته المشاركة في هذا المعرض «الطفل وحبات الكرز» 1859 التي تمثل الشاب ألكسندر والعلامات الفارقة على محياه، عن علامات مأخوذة من الحياة الخاصة والعامة، لكنه بالأصح يعبر عن الشخص الذي يشعر باللامبالاة في حياته، هي قراءة لوجه الشاب في تحولاته الدرامية من خلال انعكاسات الحياة اليومية عليه. عن هذه اللوحة بالذات قال بودلير واصفا صديقه مانيه: «هي لوحة لرسام سعى إلى قراءة نفسية للوجه البشري، لوجه من الوجوه المتوفرة في الحياة اليومية، لهذا حين ننظر إليها نحصل على المغزى الحقيقي الذي تختزنه الوجوه، الوجوه التي نراها في كل مكان». لذلك فإن وجود حبات الكرز كان وجودا سطحيا، حتى القبعة التي كان يلبسها الشاب بدت سطحية حيث التركيز الضوئي كان على الوجه والعينين. كاميل بيسارو، لم يرسم وجوها، كما أنه لم يدقق كثيرا في تفصيلاتها، مارس الرسم كمحترف جسور، أما لوحته «طريق مرسيليا» 1870 المشغولة بنفسٍ مهني عال جدا، الأقرب إلى فن المنمنمات اليابانية، فهي فتحٌ في عملية الاشتغال على اللون باعتباره روح اللوحة وجوهرها الداخلي، وهو ما يبرز وكأنه يعمل على إثارة الألوان الباردة. اللوحة التي يصور فيها بيسارو بعد ظهر يوم شتوي في قرية تقع على طريق مرسيليا، تظهر الألوان كعلامات فارقة في الداخل البارد؛ الشال الأحمر الذي يضعه أحد الفلاحين إلى جانب الحصان، إلى السماء الزرقاء التي كان يعبر عنها بصفاء قل نظيره في لوحات ذلك الزمان. لقد صور الشتاء كأنه يوم ربيعي، وهذا في حد ذاته احتاج إلى مهني متمرس في خلط الألوان، مما جعل من هذه اللوحة نموذجا حيا في زمنه؛ نموذجا بقي حتى اليوم، مصدر وحي لكثيرين من الذين يسعون للكمال في أعمالهم الفنية. أما أوغست رينوار، المعلم الأكبر للانطباعية، فهو يعمل في لوحته المختارة ضمن المجموعة «امرأة مع مظلتها في الحديقة» (1873 – 1875) على صناعة شخصية حقيقية للفن الانطباعي. لقد جاءت هذه اللوحة لتمثل عصر الانتقال من خلط الألوان الأساسية مع الزيوت إلى عصر الألوان المخلوطة والجاهزة، لكن التي يمكن استخدامها بشكل يخدم العمق الذي يريد أن يصل إليه الفنان نفسه. على هذا، عمل رينوار لا على المرأة بشكل يوضح معالمها وتفصيلاتها مما يجعلها مركز اللوحة ونقطتها الرئيسية، بل على عمق الطبيعة التي تضيع في عمقها المرأة. هذه اللوحة تعتبر واحدة من اللوحات التي غيرت الطريقة التي كان يتم عليها استعمال الألوان في ذلك الزمن وحتى اليوم. «الانهيار» 1880، لوحة كلود مونيه، المعلم الكبير الآخر بعد رينوار، هي لوحة من معرض مونيه الأول الذي أقامه عام 1880، حينها قال في مقابلة للصحافي إميل تابور: «مشغلي، ليس مشغلا، هو ليس غرفة للعمل إنه عالم من المخيلة التي تتجسد هنا في هذا المعرض». ربما علينا، ونحن ننظر إلى هذه اللوحة الخارقة في محتواها، تذكر الفنان الأفريقي دونكان ويلي الذي قدم من زيمبابوي شارحا هول مأساة بلده من خلال تجسيده لمشهد الدمار الذي حل به، وقد قدم معرضا عن الدمار في غزة بعد زيارتها عام 2008 أيضا. دونكان ويلي هو بهذا المعنى الصدى العميق الذي وقعه مونيه في معرضه الأول. لوحة مونيه هي اللوحة الأولى في تاريخ الفن التي صورت الدمار الذي تحدثه الطبيعة في نفسها. ولهذا، ربما، تعتبر هذه اللوحة في تاريخ الفن واحدة من أعظم اللوحات التي حظيت باهتمام كبير.. هي واحدة من أهم لوحات الانطباعية التي نقلت إلى العالم حجم الدمار الموجود في الطبيعة وتأثيره على عقلية ومخيلة فنان عاش نهايات القرن التاسع عشر والتغيير الدرامي في عالم الفن. كان لدى فان غوخ طاقة كامنة رهيبة في المخيلة، هو واحد من الفنانين العظام الذي أثروا الحياة الفنية برؤية مختلفة للأشياء؛ رؤية خاصة، فقد صور حتى الليل باللون الأصفر، كان ملهوفا بالشمس وألوانها وانعكاسات هذه الألوان على الواقع البشري. لهذا ربما هو أحد أكبر المعلمين في تاريخ الانطباعية على الرغم من أن حياته في الفن لم تتجاوز السبعة أعوام. في لوحته «التفريغ في آرل» 1888، بدا البحر باللون الأخضر والبرتقالي مع توشيحات سوداء ورمادية. كانت المرة الأولى التي يكون فيها لون البحر هكذا، ليس أزرق، بل مكتنزا لقوة الشمس وقوة الطبيعة الخضراء من حوله. لقد احتاج الفن لهذا الفنان الهولندي الفقير والبائس لكي تتغير مقاييسه وقواه. وهذه اللوحة التي تحتوي ألوانها نادرا ما كان يستعملها فان غوخ مثل البرتقالي والأخضر، تعبر عن عنفوان فكري ينزع إلى التغيير الفطري للأشياء. ومن هنا تستمد قوتها ومكانتها في تاريخ الانطباعية. يمكن القول إن هذا المعرض، هو درس لكل من يصله الإحساس لونيا، لكل من يتأثر باللون والطبيعة ويكون ذلك مصدر تغيير كبير في حياته. هو معرض رسالة للفنانين المعاصرين في المقام الأول، ورسالة إلى الإنسانية التي لا يمكنها الاستمرار من دون فكر ومخيلة وتغيير.