الميكروباص.. إمبراطورية «عفاريت الإسفلت» في مصر

عالم مليء بالمتناقضات.. وسائقوه يشكون من التعسف ضدهم

الميكروباص أصبح وسيلة مواصلات رئيسية يعتمد عليها 2.5 مليون مصري يوميا (تصوير عبد الله السويسي)
TT

«عفاريت الإسفلت»، «شياطين الطريق»، «دولة الشارع».. أسماء أطلقها المصريون على الميكروباص في مصر، تلك الحافلة الصغيرة التي تسع على الأكثر 14 راكبا، لكنها تحولت إلى كائن خرافي فرض نفسه بقوة على المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة، وأصبح يشكل إمبراطورية الطرق الموازية، فدون الميكروباص، وبحسب إحصاءات جهات مختصة ستصاب حياة نحو 2.5 مليون مصري بالشلل، وهؤلاء يستخدمون تلك الحافلات يوميا من بين 12 مليون مستخدم للمواصلات.

ينافس الميكروباص بقية وسائل النقل الجماعية الأخرى، ويتفوق عليها لعدة أسباب، منها أنه يصل إلى جميع المناطق بما فيها تلك التي تصلها وسائل النقل الحكومية، بالإضافة إلى رخص أجرته التي تتراوح بين 50 قرشا وجنيهين (الدولار يساوى 5.4 جنيه) وهو سعر مناسب خاصة للطبقات قليلة الدخل والتي قال عنها تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات الذي عرض على مجلس الشعب أخيرا إنها تمثل 17% من الشعب المصري البالغ تعداده نحو 80 مليون نسمة.

ورغم السمعة السيئة لسائقي الميكروباص في مصر بسبب كثرة الحوادث التي يرتكبونها إلا أن الإقبال على تلك الوسيلة للمواصلات لم يفتر، وعادة ما يظهر سائقو الميكروباص كضيوف مستمرين في صفحة الحوادث بالصحف المصرية وتتنوع جرائمهم ما بين المخالفات المرورية وحوادث السير والبلطجة والاغتصاب وأحيانا القتل.

ولعل أخر الحوادث التي اتهم فيها سائق ميكروباص كانت قبل أيام عندما اصطدم سائق ميكروباص بسيارة مهندس على الطريق الدائري بالقاهرة وانتهى الأمر بدهس سائق الميكروباص للمهندس بالسيارة ليرديه قتيلا، وهو نفس السيناريو الذي وقع مع وكيل وزارة الإعلام المصرية الأسبق الذي لقي مصرعه بنفس الطريقة.

ودفعت تلك الحوادث بعض السفارات الأجنبية في مصر، ومنها السفارة الأميركية، إلى تحذير رعاياها من ركوب الميكروباص، نظرا لسمعته السلبية سواء في مجال حوادث السير أو التحرش بالنساء.

وعلى اختلاف المناطق التي يوجد بها ستجد أن مواصفات السيارة الميكروباص تكاد تكون واحدة، فالسائق عادة ما يكون أسمر اللون من كثرة التعرض للشمس، يشغل مسجل السيارة بأعلى صوت، أيا كان المحتوى الذي يقدمه سواء كان أغاني شعبية أو رومانسية هابطة، أو حتى شرائط تتضمن خطبا دينية لشيوخ مجهولين، يتحدثون عن فتاوي ما أنزل بها الله من سلطان، أطلقت عليهم وسائل الإعلام «دعاة الميكروباص»، ومساعد السائق (التَبّاع) يصيح طوال الوقت على الزبائن، أما عن حالة السيارات فأغلبها متهالكة أو لا تصلح للسير في الشوارع، وقليل منها جديد اشتراه أصحابه بالتقسيط وبالتالي يكون السائق أكثر حرصا في التعامل مع السيارة الجديدة.

عالم خاص يميز تلك الفئة من العاملين بمشروع الميكروباص، وهم في العادة ثلاث فئات: مالك السيارة الذي عادة ما يمتلك أسطولا من السيارات، والسائق الذي يعمل أكثر من وردية في اليوم مقابل أجر هزيل والتبّاع الذي ينادي على الزبائن طوال الطريق بعدما يُخرج نصف جسده العلوي من نافذة السيارة مقابل أجر رمزي.

ولعالم الميكروباص لغته الخاصة، سواء منطوقة أو مجموعة من الإشارات يُستدل بها على المحطات، فكلمة «فِردة» تعني الرحلة من محطة البدء إلى الوصول إلى آخر محطة في المشوار، وكلمة «العَجَل» تعني السيارة، وكلمة «الراس» تعني الراكب، وكلمة «الاصطباحة» تعني الإتاوة التي يدفعها السائق صباح كل يوم إلى «المعلم» وهو الاسم الذي يطلقه السائقون على «كبير الموقف». بينما تُستخدم إشارات الأصابع بطرق مختلفة للتعبير عن أسماء المحطات، والتي تختلف من منطقة لأخرى، في تمصير للغة الأوتوستوب العالمية.

ويعتبر رجال الشرطة أول أعداء سائقي الميكروباص نظرا لكثرة تحرير المخالفات المرورية ضدهم أو سحب تراخيص القيادة أو تراخيص السيارة، ولأن أغلب سائقي الميكروباص خاصة في الأقاليم يكونون من الصبية الصغار الذين لا يملكون رخصة قيادة، وأحيانا يكونون دون السن القانونية للقيادة في مصر (18 عاما) فغالبا ما يتم اعتقالهم بتهمة القيادة دون ترخيص وهي جريمة يعاقب عليها قانون المرور في مصر بالحبس والغرامة، وأحيانا يتم مصادرة السيارة إذا كانت غير مطابقة للمواصفات الفنية المطلوبة.

أما ثاني أعداء سائقي الميكروباص، فهو السولار الذي يستخدم كوقود، فعندما تقل الكمية الموجودة في الأسواق يضطر السائقون إلى شرائه بأزيد من سعره من السوق السوداء، وعندما ترفع الحكومة سعره يعمد السائقون إلى رفع تعريفة الركوب، وهو ما يزيد من سخط الركاب. ورغم أن مشروع الميكروباص بدأ تابعا لنقابة النقل البري إلا أن قرارا وزاريا صدر قبل ست سنوات أحال المشروع إلى هيئة النقل العام، وسمح بإنشاء شركات خاصة لنقل الركاب الأمر الذي سمح ببعض التنظيم لسوق الميكروباص، إلا أن السائقين يرون أن نقل تبعية الميكروباص إلى هيئة النقل العام أضّر بهم.. عاطف السيد، سائق ميكروباص يعمل على خط التحرير - حلوان، أتم الشهر الماضي عامه الـ35، قضى الـ15 عاما الأخيرة من عمره وراء عجلة القيادة في سيارات الميكروباص، الأمر الذي ترك أثره على ملامحه، فعندما تراه ستظن أنه أكبر من عمره بعشر سنوات على الأقل.

يقول عاطف «إحنا أكتر فئة بتتهان سواء من الركاب أو من رجال الشرطة أو من أصحاب السيارات أو حتى من نقابة السائقين»، مضيفا أن دخول عدد من الدخلاء إلى مهنة سائق الميكروباص أضر بالسائقين كلهم.

ويضيف عاطف «كل واحد معاه قرشين وعايز يعمل مشروع يجيب ميكروباص ويشغل أي واحد سواق عليه، فتلاقي أصحاب السوابق والمجرمين اللي عايزين يتوبوا يشتغلوا معاه».

أما إبراهيم عبد الغني، وهو سائق على خط فيصل - التحرير، في الخمسين من عمره، يختلف عن السائقين الآخرين في أنه يملك سيارته ولا يقبل أن يعمل عليها أي سائق غيره، الأمر الذي انعكس على اهتمامه بالسيارة وصيانتها بشكل مستمر.

يقول إبراهيم: «اشتريت هذه السيارة منذ ثمانية أعوام بعد أن قضيت 12 عاما أعمل سائقا لدى آخرين، وبمجرد أن توفرت لدي الأموال الكافية اشتريت هذه السيارة بالقسط على ثلاثة أعوام».

ويبرر إبراهيم رفضه أن يعمل لديه سائق آخر بقوله «السائق عندما يعمل على عربة غيره لا يهمه سوى المكسب الأمر الذي يجعله يهمل في السيارة وصيانتها».

ويضيف «الميكروباص رزقي ورزق أولادي إزاي افرط فيها أو اهينها؟».

ويلخص إبراهيم المصاعب التي تواجهه في المخالفات المرورية وزحام الشوارع وتعنت رجال الشرطة معه في بعض الأحيان.

وعن دور نقابة السائقين، قال إبراهيم، وابتسامة ساخرة تعلو شفتيه، «نقابة إيه وبتاع إيه إحنا بندفع اشتراك سنوي»، وعندما يمرض أحدنا أو يصاب في حادث يظل هو وأسرته دون أي مورد رزق.

أما ضُحى نبيل وهي مهندسة إلكترونيات تعمل في شركة بوسط القاهرة وتقطن في ضاحية حلوان (30 كيلومترا جنوب القاهرة) فتقول: «أعتمد على الميكروباص يوميا في الذهاب والإياب إلى عملي ورغم وجود مترو الأنفاق بالقرب مني، فإني لا أفضل ركوبه نظرا لازدحامه». وتحدد ضحى عدة معايير يجب توافرها في الميكروباص قبل أن تركبه، «منها ألا يكون السائق شابا صغيرا لكي أضمن أنه لن يقود برعونة، كما يجب أن يكون هناك سيدات أخريات معي في الميكروباص».

ويقول نبيل عبد الله، موظف بأحد البنوك بوسط القاهرة ويقطن في حي الهرم «أكثر ما يزعجني في الميكروباص هو صوت الكاسيت العالي، وعدم احترام السائقين لمحطات النزول أو الصعود، الأمر الذي قد يتسبب في تعطيلنا كثيرا».

وعن سبب تفضيله للميكروباص على بقية المواصلات الأخرى، يقول نبيل «لأني أستقله من أمام منزلي بالإضافة إلى أنه أسرع وأرخص من بقية المواصلات الأخرى رغم ما به من سلبيات أبرزها رعونة بعض السائقين وتعاملهم مع الركاب بعدم احترام».

ورغم انتشار الميكروباص وزيادة تأثيره في الحياة اليومية للمصريين، فإنه لم يظهر في السينما سوى في فيلمين الأول فيلم «عفاريت الأسفلت» من إنتاج عام 1996 وبطولة محمود حميدة وعبد الله محمود وإخراج أسامة فوزي، وقدم الفيلم مجتمع سائقي الميكروباص من خلال اثنين من السائقين، والثاني كان فيلم «حسن طيارة» من إنتاج عام 2007 وبطولة خالد النبوي ورزان مغربي وإخراج سامح عبد العزيز ويقدم قصة محام اضطرته الظروف للعمل سائقا للميكروباص ويقع في غرام ابنة أحد الأثرياء.

وظهر عالم الميكروباص وبقوة في كتاب «فيصل.. التحرير أيام الميكروباص والديسك» للكاتب حمدي عبد الرحيم الذي قدم وصفا دقيقا لذلك العالم من خلال تجربته الشخصية في ركوب الميكروباص استمرت نحو 15 عاما.

وبدون قصد تسبب سائقو الميكروباص في فتح ملف التعذيب في أقسام الشرطة المصرية، بعد قضية السائق عماد الكبير الذي قام أحد ضباط الشرطة بتعذيبه وهتك عرضه في قسم شرطة بولاق الدكرور بالجيزة (غرب القاهرة) عام 2006 وصور الواقعة بالفيديو ووزعها بين الناس، لتحال الواقعة إلى القضاء الذي حكم على الضابط بالسجن المشدد 3 سنوات.