«البمبوطية».. سفراء على غير العادة بميناء بورسعيد البحري

نشأتهم من عمر قناة السويس.. وأحداث سبتمبر حاصرتهم أمنيا

بمبوطي شاب يعرض بضاعته الفرعونية فوق الرصيف
TT

في البحر وعلى متن السفن يقضي «البمبوطية» ساعات طويلة في عرض بضائعهم الشرقية على مئات الجنسيات من البحارة الذين يستقلون السفن القادمة إلى ميناء بورسعيد قرب مدخل قناة السويس.. بخفة ورشاقة يتسلقون سلالم السفن والناقلات العملاقة التي ترسو بالميناء عارضين بضائعهم من التحف الفرعونية وورق البردي والملابس القطنية محلية الصنع على البحارة والركاب.. وخلال ساعات محددة يقضونها يوميا على متن السفن، يتحولون إلى سفراء على غير العادة لبلدهم بين جنسيات من شتى أنحاء العالم.

في ميناء بورسعيد وعلى رصيف الرسو يوجد يوميا المئات من البمبوطية، كل منهم ينتظر بشغف دخول السفينة التي سيتسلق إليها، وفق تنظيم واتفاق بينهم، بحيث يعتلي كل سفينة مجموعة من البمبوطية، بعضهم متخصص في بيع التحف للسفن الروسية، والآخر متخصص في بيع البرديات للسفن الهندية، وذاك يحسن التعامل مع البحارة على متن السفن الإيطالية.

مهنة عمرها داخل مدينة بورسعيد تعدت القرن ونصف القرن، ورغم ما تحفها من مخاطر وما تعتريها من تغيرات اقتصادية وأحداث سياسية فقدت المهنة كثيرا من مظاهرها، فإن البمبوطية ظلوا محتفظين بهويتهم رافضين العمل بغيرها والبحث عن مصدر رزق في مكان غير البحر.

أثناء قيام ربان السفينة «كوين فيكتوريا» السياحية بأعمال الرسو على رصيف ميناء بورسعيد افترش العشرات من البمبوطية بضائعهم الشرقية على الرصيف من التحف الفرعونية محلية الصنع وأوراق البردي المرسوم عليها صور ونقوشات فرعونية وملابس قطنية مطبوع عليها صور فرعونية.. ومع بدء نزول السياح لمرسى الميناء اصطف البعض من البمبوطية ببضاعتهم يعرضونها على طاولات عرض خشبية حيث تهافت السياح من الجنسيات الإنجليزية والفرنسية واليونانية على شراء البضائع التي يتم بيعها باليورو والدولار.

يقول سعد عزام رئيس مجلس إدارة جمعية «أبناء البحر» التي يشترك في عضويتها نحو 400 بمبوطي من بورسعيد: «البمبوطية كمهنة استحدثها حفر قناة السويس وموقع بورسعيد كميناء رئيسي على البحر المتوسط حيث انضم المئات من عمال حفر القناة الذين أنهوا عملهم في حفرها للتسلق على السفن والناقلات بكافة أنواعها عارضين بضائعهم من المنتجات المصرية التي تحمل التراث الفرعوني على البحارة الموجودين على متن السفن. وهذه البضائع منذ افتتاح القناة تلقى إقبالا وسوقا رائجة بين الأجانب، ويستمر عمل البمبوطي على المركب لأكثر من ثلاث ساعات يلاقي فيها ترحيبا هائلا من البحارة حيث يفتحون له صالة الزائرين ويلتفون حوله لتفحص البضائع التي يحملها».

يتابع عزام: «البمبوطية لديهم ثلاثة طرق للوصول وبيع بضائعهم، فبعضهم ينتظر وصول السياح إلى رصيف ميناء بورسعيد حيث يتم عرض بضائعهم بفرشها على رصيف الميناء. لكن أغلبية السفن والناقلات الراسية بالميناء والبعيدة عن الرصيف يتم الوصول إليها بقوارب صغيرة يستقلها البمبوطي حتى الوصول لسلم السفينة فيعتليه للوصول إلى سطح السفينة حاملا بضائعه في حقيبة جلدية معلقة على الظهر. وما إن يصل إلى سطح السفينة حتى يقوم بعرض بضائعه في فترة زمنية لا تتعدى ثلاث ساعات تقريبا وهي فترة رسو السفينة بالميناء لتستكمل رحلة إبحارها».

ويقول: «أحيانا ولظروف أمنية ولتعليمات من التوكيلات الملاحية يتم منع صعودنا إلى السفينة حيث نقوم بعرض البضائع على سطح القارب الصغير ويتجمع البحارة لمشاهدة البضائع وتتم عملية البيع والشراء وكل في مكانه، حيث يقوم أحد البحارة التابعين للسفينة بتوصيل النقود إلى البمبوطي ونقل البضائع إلى السفينة».

ويقول عزام، أفضل الأوقات التي يقضيها البمبوطي على السفينة داخل قناة السويس، حيث يقوم البمبوطي بالوصول إلى السفن قبل دخولها إلى الممر الدولي من البحر المتوسط، وهذه الرحلة تكلف البمبوطي نحو ألف جنيه. ويتابع يقوم البمبوطي بتأجير لنش تصل تكاليفه لأكثر من 250 جنيها حتى يتمكن من الوصول للسفينة في عرض البحر، وهناك يصعد إليها قبل دخولها قناة السويس وحتى وصولها إلى السويس في رحلة تمتد لأكثر من 16 ساعة داخل قناة السويس.

ويضيف، طوال هذه الفترة يقوم البمبوطي بعرض بضائعه على طاقم السفينة والبحارة والركاب إذا كانت السفينة سياحية.

وعند الوصول إلى السويس يكون في انتظاره لنش آخر ليقوم بتوصيله من السفينة وحتى الميناء وبتكلفة تصل إلى 250 جنيها ومن الميناء يستقل سيارة خاصة للعودة إلى بورسعيد تصل تكلفتها لنحو 150 جنيها، فضلا عن مصروفات الطعام والشراب وبعض الهدايا التي يقدمها لقبطان المركب حتى يتم تدعيم العلاقات بينهم.

وتستصدر السلطات المصرية للبمبوطية تصاريح لمزاولة المهنة والعمل داخل الميناء وحرية التحرك داخل البحر، إلا أن الإجراءات الأمنية التي فرضتها الجهات الأمنية على مرور السفن، خاصة الحربية منها، قللت كثيرا من حركة البمبوطية داخل الميناء وباتت هناك نوعيات من السفن يحظر على البمبوطية اعتلاؤها، كما أنه بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 بأميركا فرضت إجراءات أمنية مشددة على عبور السفن بقناة السويس وعلى دخولها ميناء بورسعيد.

ويقول طه المصري إنه وزملاءه البمبوطية كانوا دائما يعتلون السفن بكافة أنواعها ومنها الحربية، مضيفا أنه اعتلى غواصات أميركية وفرقاطات إنجليزية وقام بعرض بضائعه على الجنود والركاب الذين كانوا يستقلونها ولم يكن هناك أي موانع تفرض عليه وعلى زملائه.

ويؤكد المصري أن البمبوطية معروفون لدى الجهات الأمنية بالأمانة، وهناك علاقات متوازنة مع السلطات المصرية، فالكل يعتبرهم بمثابة السفراء لمصر بين البحارة من مختلف دول العالم. ويشير المصري أيضا إلى أحداث سبتمبر وتسببها في حظر اعتلاء البمبوطية السفن الحربية وعددا من السفن السياحية وبعض سفن الحاويات.

لكن محمد عباس أحد البمبوطية، سكرتير جمعية اتحاد تجار البحر الخاصة بالبمبوطية، يذكر أن حادث مقتل أحد البمبوطية إثر إطلاق سفينة أميركية النار عليه تسبب في حالة من الاستياء لدى البمبوطية، خاصة بعد عدم قدرتهم على رد حق زميلهم. مشيرا إلى أنه كان هناك تحرك من القوى السياسية والشعبية للمطالبة بمنع عبور السفن الحربية الأميركية في قناة السويس ردا على الحادث، وهو ما جعل هيئة القناة تضع كاميرات مراقبة داخل المجرى الملاحي للقناة ثم توالت الأحداث ليتوجه الردع هذه المرة للبمبوطي، وذلك بمنعه من مزاولة مهنته.

أما أيمن الهندي وهو بمبوطي يتقن اللغة الهندية ومتخصص في التعامل مع السفن الهندية فيرى أن أكثر البحارة إقبالا على شراء البضائع المصرية هم الهنود والروس والأوروبيون. وأكثر البضائع التي تلقى رواجا بين البحارة والسياح هي الملابس القطنية المطبوع عليها نقوش فرعونية، وكذلك التحف والتماثيل الفرعونية. ويتم شراء هذه المنتجات من خان الخليلي بالقاهرة.

ويكشف الهندي عن أن هناك الكثير من الموظفين بميناء بورسعيد يمدون البمبوطية بقائمة السفن وأنواعها المقرر دخولها للميناء في اليوم التالي حيث يتم تقسيم السفن على البمبوطية بترتيب دخولها للميناء، فهناك منا من يتخصص في التعامل مع السفن البنمية، وهناك من يتقن التعامل مع الروس، وهناك من يفضل التعامل مع الهنود، وهناك من يهوى التعامل مع الأوروبيين.

وفي رأي الهندي، لم تعد مكاسب البمبوطي كما كانت في الماضي، فقبل نحو عشر سنوات تحديدا كانت المكاسب اليومية تصل لنحو 20 إلى 30 جنيها بصفة يومية، لكن الآن الوضع اختلف تماما وأصبحت المكاسب الأسبوعية تصل لنحو 50 جنيها فقط، خاصة مع إجراءات التوكيلات الملاحية التي تمنع البمبوطية من صعود السفن.

وعلى طاولة البمبوطية يصل سعر ورقة البردي لنحو 5 دولارات، فيما يتراوح سعر القميص القطن ما بين 10 إلى 15 دولارا طبقا لجودة القطن المصنوع منه.

وتترواح أسعار التحف والتماثيل حسب الحجم ما بين 10 دولارات حتى 40 دولارا حسب الحجم.

ومنذ نشأة المهنة مع بداية افتتاح قناة السويس ومرور السفن من كل الجنسيات بها إلى عام 1859، كانت البضائع التي يحرص البمبوطي على حملها وبيعها فواكه وأطعمة ومياه، إلا أنه سريعا ما تغيرت طبيعة السلع التي يحملها البمبوطي على قاربه ليبيعها لركاب السفن والمراكب المرابطة بالميناء حيث أصبحت سلعا تراثية مثل المتداولة في خان الخليلي والبازارات.

ولم تشهد مهنة البمبوطية تغيرا فقط في نوعية السلع بل وصل التغير لطبيعة عمل البمبوطي نفسه، كما تغيرت أدوات عمل البمبوطي حيث كان البمبوطي يحمل بضائعه الشرقية من أسواق بورسعيد ويذهب على «الحمار» إلى الرصيف الذي تنتظر عليه السفينة، إما أن يبيعها مقابل عملات أجنبية أو يقايضها ببضاعة أخرى مع البحارة أو السياح. وتطورت وسيلة نقل البضائع من الحمار إلى «التروسيكل» ثم القوارب الخشبية الصغيرة وكانت تسمى الواحدة منها «فلوكة» حتى وصلت إلى الوسيلة الحالية وهى «اللنش البحري».

وكان البمبوطية يتوجهون إلى السفن بشكل طبيعي بعدما يحصلون على التراخيص من أمن وهيئة الموانئ، وكان كل ما يفعله البمبوطي هو أن يلقي بحبل طويل لأحد الركاب بعدما توجه بالقرب من السفينة بواسطة «الفلوكة» وفي نهاية الحبل «زمبيل» أو خطاف معلق به بعض تلك الأطعمة أو الفاكهة أو الشراب وينتظر الفرج، وفي النهاية يعود له الطرف الآخر من الحبل وبه بعض الهدايا من الملابس أو الأجهزة الكهربائية أو النقود في بعض الأحيان مقابل ما أعطاه لركاب السفينة من بضائع‏، ثم يعود أدراجه نحو المدينة‏. فإن كانت أموالا اشترى بها قوتا لأولاده ‏، وإن كانت بضائع باعها لأهل بورسعيد أو رواد المدينة.‏ وفي ظن الكثيرين من البورسعيدية كانت البمبوطية من أفضل المهن بالموانئ وأرقاها على الإطلاق حيث كان البمبوطي يتميز بملابسه الأنيقة ورائحة البارفانات الأجنبية وسعة رزقه، كما كان هو أفضل رجل تفضله الأسرة البورسعيدية زوجا لبناتها.

يقول حمدون عطية، بمبوطي يعمل بالمهنة منذ أكثر من 40 عاما وتوارثها عن جده ووالده إن المهنة حدث بها الكثير من التغيير، ففي الماضي كان البمبوطية يعاملون معاملة مميزة من أطقم السفينة والبحارة، حيث كانت تفتح لهم أبواب الصالونات داخل السفن، إلا أنه الآن يمنع اعتلاؤهم السفن بسبب الإجراءات الأمنية وصدور بعض السلوكيات من الدخلاء على المهنة.

وبأسى يتابع حمدون: «قديما لم يكن يمر يوم على بمبوطي إلا وقد اعتلى سفينة أو ناقلة بالاتفاق مع زملائه كل حسب تخصصه في التعامل مع جنسيات السفن، إلا أن الفترة الحالية تشهد ركودا في سوق العمل حيث تحد الأجهزة الأمنية من التحرك على السفن كما تمنع التوكيلات الملاحية البمبوطية من اعتلاء السفن».

وشهدت المهنة الكثير من التحديات أبرزها بعد تحول مدينة بورسعيد إلى منطقة حرة حيث اتجه الكثير من البمبوطية إلى التجارة وبدأت السفن السياحية تسمح للركاب بالتجول في المدينة، إلى أن جاء قرار عدم صعودهم إلى البواخر الحربية والسفن التجارية العملاقة الذي ضرب المهنة في مقتل، مما دفع الكثير منهم إلى الاتجاه لأعمال باليومية كسائق تاكسي أو عامل نظافة أو شيال بالميناء، في الوقت الذي رفض فيه متوارثون للمهنة التخلي عن مزاولة مهنتهم الأصلية.