الفنانة اللبنانية هيبت بلعة ترمي أغراض البشر في مساحة التأليف

معرضها المعماري تتنافس ألوانه في فضاء اللوحات

الألوان والانعكاسات ملعب الفنانة التي تشاغب عبرها بمواضيع تضج بإيقاعات مرسومة بدقة ومتنافرة بدقة
TT

يترك معرض الفنانة التشكيلية اللبنانية هيبت بلعة البواب انطباعا بأن اللوحات الزيتية المعلقة على جدران غاليري «ألوان» هي جزء من عمارة داخلية تثبت بنيانها المعلق على فضاء مساحة اللوحة. استضافة «ألوان»، الذي يقع في منطقة الصيفي التراثية وسط بيروت، لهذا المعرض يشي بأن ما تقدمه الفنانة هو امتداد للمكان ببهائه وهندسته وعمارته. كذلك الإحساس بكثافة الألوان، الذي يفيض إلى حد مغامرة التذوق ليس بالعين فقط، إنما باليد والأعصاب وحتى الأذن واللسان. ذلك أن تفاصيل هذه الأعمال لا يستهان بها. كأن العالم يتدافع في غرف زاهية بكل فرح الأرض. بلعة تقدم عالم فرح يتفشى كأنه وباء. وينشر موجات كبيرة من الحب التي نظن أننا نتنفسها في أمكنتها وتناقضاتها.

تقول بلعة لـ«الشرق الأوسط»: «يهمني التأليف كثيرا. فأنا أريد الصور المتنوعة والرؤى المتنوعة. وأريدها من خلال التناقض بين كل داخل وخارج في مساحة التشكيل. سواء عبر المضمون أو عبر الألوان، وتحديدا الأسود والأبيض، لذا حرصت من خلال لوحات هذا المعرض على الألوان والانعكاسات». تضيف: «لا اسم لهذا المعرض. لم أرد ذلك. لكن يليق به عنوان التناقض».

الأسماء التي اختارتها بلعة للوحاتها تؤكد تحكم التناقض بها. ففيها «أزرق/أخضر متوازيان»، و«داخل/خارج» و«ضوء/ظل»، أو بكل بساطة ومباشرة «تناقض». لكن التناقض الأكبر يبقى في منسوب الرومانسية التي لا تغادرها الفنانة. ليس فقط من خلال البحث عن الذكريات أو الأحلام أو حميمية الأمكنة الخاصة، إنما من العلاقة مع الطبيعة التي تنبثق من ألوان لوحة تحمل اسم «نهاية أيلول» أو أخرى سمتها «شموع في الريح»، وذلك من دون تخصيص هذه الطبيعة بمضامين في متن اللوحة.

الألوان والانعكاسات ملعب الفنانة التي تشاغب عبرها بمواضيع تضج بإيقاعات مرسومة بدقة ومتنافرة بدقة، إلا أن الخصوصية التي أسست الخط البياني للوحات الثماني والعشرين هي في عمل بلعة على الشكل المربع. فالمربعات تسيطر على قماشة النص التشكيلي وتحدد وجهة سير العمل فيه من دون أن تأسر المضمون أو تغلقه. تقول: «المربع هو أحدث ما اشتغلته وطورته، في حين كنت في السابق أعتمد المثلث». ربما لأنها لا تريد في مجموعتها التشكيلية هذه ما يستلزم استخدام المثلث، كما كان الحال في معرضها السابق، حيث كان التركيز على الوجوه. أما مرحلتها الفنية هذه فتقوم على التأليف المحدد والأكاديمي، إذا صح التعبير، ما يعكس شخصيتها كأستاذة جامعية لفنون الرسم. لكن هذه المقاييس الصارمة التي تظهر واضحة في كل لوحة لا تلغي ميزتها في قدرتها على بث الدفء والحياة والتفاعل. تقول: «معرضي هندسي، لذا يغيب عنه الأشخاص. يتحولون ظلالا وصورا في المكان. أنا لا أرى الإنسان. أريد التأليف».

لا ترى الإنسان لكنها تشعره وتشعرنا به. وهي تستحضره على طريقتها، فتفتش عن تعديل القوانين المتبعة لريشتها، ولكن من دون التخلي عن هذه القوانين. كأنها تبحث عن تشكيل سري من دون تحريض يسطع في أعمالها. تبذل جهدا واضحا واجتهادا لا يترك للجموح أي مجال في ضربة ريشتها على القماش. توضح أن «جنون الريشة لا يفيد. ولا علاقة له بضربة الفنان. كل شيء على قماشة الرسم مدروس ومتشابك». تدل على ذلك تفاحة وسط غرفة. التفاحة في هذه اللوحة هوية جغرافية. فهي تنقل غرفة صديقة في قرية كفر ذبيان الجبلية المشهورة بالتفاح. السمكة بدورها تصبح هوية منطقة عين المريسة حيث الكورنيش البحري الممتد على الشاطئ البيروتي، كذلك صف السيارات والناس على الرصيف في زاوية الرؤية لمطعم أو منطقة سهر.

مثل هذه التفاصيل تعطي اللوحة إنسانيتها وتبعدها عن الجماد. كذلك تفعل أغراض البشر المرمية بإتقان في مساحة التأليف. فما تشكله بلعة متخم بتفاصيل الحياة اليومية. تدل عليها الخزائن العتيقة والمقاعد الوثيرة وكوب من هنا ومرآة من هناك وزخرف شرقي لأبواب مفتوحة على مفهوم البيت انطلاقا من كونه الوطن الصغير والانتماء، وكتب بألوان زاهية نضدت على طاولة جانبية ولوحات ثانوية داخل اللوحة الأم. لكن أنسنة الأمكنة لها حدودها في أعمال بلعة. فهي مجرد إشارات لخدمتها. حتى شجرة النخيل ليست سوى إشارة، لأن الفنانة تبقيها صغيرة قياسا إلى مساحة اللوحة. لا تريد للعين أن تصطاد إلا ما تهدف إليه من خلال تطويعها كل ما يحيط بالفكرة الرئيسية. ولا تخرج السماء وغيومها عن هذا المبدأ، كذلك البحر والأفق والطريق.

ماذا عن زمن اللوحات؟ تقول بلعة: «هو الزمن الحاضر، لأن فيه لقاء بين القديم والجديد. وفيه ما يحول دون اكتمال المشهد حتى لا يطغى على التأليف. وفيه ذكريات وحكايات، كما يدل الركام الذي لا يدفعني إلى اليأس. فهو إشارة للمستقبل واحتمال البناء. وهو أيضا استحضار لمدينة بيروت التي تتقلب مراحلها باتجاه المستقبل».

والأهم أن اللون يغزو كل شيء. يقول أحد رواد المعرض: « الألوان ثائرة، تهاجم الجميع. كل لوحة تدفع الناظر إليها إلى الإحساس باللون تماما كما يحس بسيمفونية تتنافس فيها الآلات الموسيقية. ففي أعمال بلعة موسيقى تتصارع من خلال اللون. فالأزرق يحاول التغلب على الأحمر. والأسود يحاول دحر الأبيض. والإيقاعات تتصاعد إلى الحد الأقصى ثم تخفت وكأنها متعبة من التنافس. وفي النهاية لا نعرف أي لون انتصر. ولا نشعر بالتعب، فما يدور في فضاء اللوحة لا يصدم أو يبث منبهات للرؤية ليمنح راحة تشبه تدليك شعيرات في الدماغ».