حفيد سيغموند فرويد يعيد مجد جده بالتشريح اللوني

في معرض «المحترف» بباريس

بورتريه الملكة إليزابيث الثانية
TT

بالتكريم الذي يقيمه مركز «بومبيدو» في باريس للفنان الإنجليزي لوسيان فرويد المولود في ألمانيا 1922، يمكننا تذكر مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، جدّ هذا الفنان الذي لجأت عائلته إلى بريطانيا في عام 1934.

المعرض التكريمي الذي يقيمه المركز لفرويد الحفيد وهو في عمر التسعين، ربما هو المعرض الأخير أو شبه الأخير الذي يقيمه هذا الفنان، الذي يلتقي مع جده في كثير من الخصال التحليلية للذات البشرية، لكن من خلال رؤية شخصية تبتعد أو تقترب من أسلوب الجد. الاختلاف بين الاثنين جوهري إذا ما أخذنا بعين الاعتبار البوابة التي ينطلق منها الاثنان في النظرية التحليلية للذات البشرية.

والحق أن هذا المعرض الذي حمل عنوان «المحترف» يدخل المتلقي إلى عالم لوسيان فرويد الشخصي والحميم، يدخله إلى المصنع الذي يقيم فيه الفنان نظريته ويشرحها لونيا، كما أنه المكان الذي يشرِّح فيه هذا المعلم الكبير الوجوه والأجساد التي تقع تحت مبضعه اللوني. وبينما غاص جده في تحليل النفس البشرية وكل ما يقع خلف الجلد الخارجي للإنسان، تمثل لوحات الحفيد عالما ارتداديا إلى الخارج يعتمد على تعرية الذات من ألبستها وأقنعتها الخارجية وكشفها بشكل لا يظهر جماليتها على الإطلاق، ينزع عن الذات قشورها التجميلية ليدخلها في عالم من التحليل العميق للحال البشرية بمظهرها الخارجي وبتحولات الجسد في مراحله الأخيرة، دون أن يبذل أي جهد في تجميلها وتحسين مظهرها.

والحق أن العري عند لوسيان فرويد ليس عريا جماليا أو مستفزا للمشاعر الطبيعية للإنسان الميالة إلى استفزازات الإغراء الجسدي الأنثوي والذكوري الجمالي. العري هنا، عند حفيد مؤسس التحليل النفسي، هو الضد تماما وكليا، إنه إلقاء النظرة الحقيقية من خلال الاستخدام البيولوجي للجسد البشري كإكمال متعارض مع عمل أفنى الجد حياته من أجل تكريسه، وكاختلاف مستفز لسيرة الأولين وكدراسة متأنية وخبيرة وموهوبة لمراحل تطور الجسد وانهياره. فالعمل الفرويدي النفسي الغائص في ذاتية الفرد وجوهر نوازعه وأناه - العليا والصغرى - يتم الدخول إليه من بوابة الجسد الأنثوي والذكوري في تحديد واضح لوظيفة باتت، تقريبا، مهملة في الفن الحديث.

يقيم لوسيان فرويد علاقة واضحة بين عالمه المحترف وما يدخل ضمنه من فكرة تفيد بأن كل ما يرسم أو له علاقة باللون والريشة هو داخل هذا العالم، وأن كل ما هو خارج عن هذا هو غريب عنه. الداخلي والخارجي هنا أمر يعني التكامل مع المكان، تكامل الفنان نفسه مع ما يريد قوله على لسان لوحاته الملونة والمنحوتة وجوهها نحتا دقيقا كما لو أننا أمام صورة فوتوغرافية صريحة المعالم والأحوال. وهو يدخل كل شيء إلى هذا العالم، حتى حصانه وكلبه هما جزء من المحترف، هما داخل المحترف. العري غير المستفز، العري الحقيقي، العري بمعناه الإنساني الصرف، الكاشف لتحولات الجسد البشري. كل هذه الخصائص هي من تيمات لها علاقة وطيدة بكسر نظرة تكرست عن الجسد لا فكاك منها إلا بضربة معلم أصيل كلوسيان فرويد.

لا يأتي هذا المعرض نتيجة فراغ ما في عالم كبار المعلمين في الفن التشكيلي، ربما ينافس لوسيان فرويد الكثير من الفنانين، لكنه معرض وفنان عرف عنه ابتعاده عن عالم الأضواء وعن الشهرة التي تسطح الأعمال في غالبية الأحيان. لذلك فقد بقي، تقريبا، فنانا طي الكتمان، فنانا داخل محترفه إلى أن بيعت واحدة من لوحاته في مزاد علني بثلاثة وثلاثين مليون دولار في نيويورك لصالح أحد الأثرياء الروس المستحدثين.

اللوحة الفريدة والوحيدة التي تفترق عن جملة أعمال لوسيان فرويد هي بورتريه الملكة إليزابيث الثانية التي عمل فرويد على تضخيم وجهها وملامحه وتقطيع هذه الملامح بحدة وبضربة معلم استثنائي جعلت هذه اللوحة تحمل كل معاني التفرد الفني مع شخصية عالمية رُسمت عشرات المرات وفق النظرية الكلاسيكية للبورتريه الجمالي. هذا المعرض يعتبر فرصة نادرة بكل ما تعنيه الكلمة، خصوصا أنه يجسد تحولات مدرسة فنية كبيرة وعريقة، ويجسد الروح التطويرية الابتكارية التي يتحلى بها هذا الفنان الذي يقف اليوم على قمة العمر.