المدخنون في المطارات.. دردشة تتجدد وفقا لسياسة «آخر نَفَس»

من صنعاء إلى الدوحة إلى طهران

غرفة تدخين معبقة برائحة التبغ في الطابق الثاني في مطار الدوحة الدولي («الشرق الأوسط»)
TT

يبدي مدخنون في غرف مخصصة للتدخين في المطارات الشرق أوسطية قلقا من مستقبل المنطقة، وبأعصاب متوترة غالبا يقلبون هواجس هذا المستقبل وأبعاده بسياسة «آخر نفس». ومنذ جرى منع التدخين في غالبية مطارات العالم، يتجمع المسافرون المدخنون في غرف صغيرة مخصصة لهذا الغرض، وأصبح الاحتياج إلى قداحات وأعواد ثقاب لإشعال لفائفهم يقرّب بينهم مزاجيا ودوليا، وبخاصة بعدما شرعت المطارات مؤخرا في مصادرة القداحات وعلب الثقاب من الركاب، على خلفية محاولة النيجري عمر الفاروق عبد المطلب تفجير طائرة أميركية عشية أعياد الميلاد الماضية.

في مطار طهران الدولي، المعروف بمطار «الإمام خوميني»، يوجد في غرف التدخين منفذ صغير لبيع السجائر بأنواعها. شاب إيراني اسمه فروغي غير واثق بمستقبل بلاده مع الدعوة المتنامية للمعارضة الإيرانية تنظيم مظاهرات خلال الأسابيع المقبلة. ويشعر فروغي - 26 عاما - وهو ناشط ذو ميول يسارية، بأن رئيس البلاد والمعارضة يدورون في فلك «الثورة الإسلامية» نفسه. يقول إنه حصل على تأشيرة خروج لزيارة أسرته في أوروبا بعد 5 أشهر من طلبها، مشيرا إلى صعوبة السفر إلى خارج البلاد، وبخاصة أن السلطات تدقق في أسباب السفر.

غرفة التدخين في الطابق الأرضي الخاص بصالات مغادرة مطار طهران ملونة بالأحمر من المنتصف والأسود من أسفل ومن أعلى، ومزودة بـ8 موائد زجاجية مستديرة، عليها منافض. حول كل مائدة 3 مقاعد. يدخن فروغي بشراهة سجائر «بهمن» محلية الصنع، وهي أقل سمكا وحجما من السجائر العادية. يشير إلى أن أقرانه في طهرن أصبح في وسعهم تجاوز الحظر الحكومي والوصول لـ«فيس بوك» من خلال برنامج اسمه «dynaweb».. «هذا موضوع في السر. لا ينبغي الدخول على (فيس بوك) علانية». في هذه الأحوال يتحول المسافر المدخن الذي يحمل ولاعة إلى شخص مهم، كما يقول الضابط محمد - 32 سنة - الذي يعمل في مطار الدوحة في دولة قطر.. «هنا فرصة لمعرفة ما يدور في الدنيا.. نعم، لكل مسافر همومه.. الأوروبيون لا يتحدثون كثيرا، وصوتهم خفيض، أما العرب فيلغطون بصوت مرتفع». يقول ذلك وهو يدخن سجائر «مارلبورو» الأبيض مع المسافرين في غرفة التدخين، جوار رجل أعمال هندي صغير يدعى كومار، يشكو من الإجراءات المعقدة في الدول العربية لتوريد لحوم الجاموس إليها.

يضيف كومار - 42 عاما - وهو يدخن سجائر «روثمان» ذات غلاف أزرق: «لي شركاء يوردون لإسرائيل.. إذا فعلت فسوف تفسد تجارتي.. أورد لإيران، مع شركائي، 100 ألف طن من لحم الجاموس.. ما مشكلتي؟ هل تفهم الإنجليزية.. حسنا»، وسحب نفسا من الدخان.. «مشكلتي، أنا وشركائي، أن إجراءات إدخال لحوم الجاموس إلى إسرائيل تتم بسهولة، بينما في إيران صعبة جدا، ومعقدة».

كومار يطمع في الاستمرار في التوريد لإيران، البالغ سكانها نحو 72 مليون نسمة، وستفتح عقوبات الغرب عليها، بسبب برنامجها النووي، مجالات جديدة لأعماله فيها، مقارنة بأسواق إسرائيل التي يبلغ عدد سكانها نحو 6 ملايين نسمة فقط. ولن يجرب التصدير إلى الدول العربية، لأن الإجراءات فيها أطول من إجراءات إيران. في كل الأحوال، وبسبب نذر الحرب في المنطقة، لا يبدو كومار مطمئنا كثيرا إلى مستقبل تجارته، سواء استمرت في طريقها لطهران، أو انتقلت إلى تل أبيب.

الدخان في غرفة في الطابق الثاني من مطار الدوحة كثيف، وحوّل الأجواء لما يشبه غرفة بُخار، على الرغم من وجود 6 شفاطات و3 مراوح لتحريك سحب الدخان.. تبدو غرف التدخين هنا أكثر سعة. تشبه مكان الانتظار في المستشفيات. كل غرفة مزودة بكاميرا مراقبة في زاوية من السقف، لمساعدة السلطات الأمنية على كشف كل تفاصيل المطار بمن فيه من مسافرين. وتبدو دول الخليج أكثر احترازا، وبخاصة بعد قضية اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في دولة الإمارات مطلع هذا العام.

في السنوات الأخيرة، أخذت دول بالعالم، بناء على توصيات منظمة الطيران المدني، منع التدخين على الطائرات، وخصصت المطارات غرفا خاصة بالمدخنين البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة في العالم، لكي يفكروا في الإقلاع عن عادة تعتبر ثاني أهم سبب للوفاة. ومنذ 2005، التزمت 168 دولة بتدابير ضد التدخين، منها ليبيا في مطار طرابلس الدولي. هنا غرف التدخين زجاجية. المساحة نحو متر ونصف المتر. في الطابق الأول، تخلو الغرفة من المقاعد. فقط منفضة من الاستانلس ستيل تشبه البرميل. في السقف شفاطان لطرد الدخان.. وعلى الرغم من ذلك، يشكو المدخنون في معظم مطارات العالم من أن وضعهم الاستثنائي هذا يجعلهم يحسون بأنهم كائنات لا علاقة لهم بالبشر، حيث يحشرون في أماكن ضيقة وكئيبة في أغلب المطارات لقضاء متعة تدخين سيجارة.

الغرفة الثانية في الطابق الأعلى من المطار الليبي، فيها 4 مقاعد على الرغم من ضيقها. يرطن موفدان من شركة تركية، بجوارهما ألماني يحدق إلى شاربيهما. يوجد تاجران سوريان، أحدهما اسمه إياد - 55 عاما - يدخنان سجائر «رياضي» ليبية الصنع. الغرفة مزدحمة.. الدخان كثيف.. الكلمات المكسرة تغزل حكايات بينهم. أحد التركيين، سليمان - 49 عاما - كان الوحيد الذي نجح في إدخال ولاعته معه. جاء ليبيا لدراسة «فرص عمل كبيرة».

شركة سليمان تنتج مواسير المياه والصرف، والحكومة هنا تريد تجديدها ومد خطوط لتجمعات سكنية ناشئة.. «السوق تبدو مطمئنة، لكن ماذا عن الأيام القادمة؟ هذا غير مضمون، كما كان في الماضي». وتحدث الألماني، وهو كهل من شركة للهواتف، عن شركات أميركية سبقت الجميع إلى هنا. الشفاط في سقف غرفة التدخين يطن. أعرب مهندس معماري روسي شاب يعمل في المجمع السكني الجديد قرب بحر طرابلس، عن قلقه من حدوث تغير سياسي مفاجئ.. «لن تحدث ثورة، لكن من يجزم بما يمكن أن يجري؟! يمكن لمشكلة صغيرة أن تؤدي إلى قطع العلاقات فجأة بين موسكو وطرابلس كما حدث بين سويسرا وليبيا..»، وغرس عقب سيجارته في المنفضة بقوة.. وانصرف.

الحديث يجري في مطار صنعاء الدولي بطريقة مختلفة.. هو مطار صغير. يمكن إشعال لفافات التبغ في غرفة زجاجية مخصصة لذلك تتسع لـ6 مقاعد. فيها منفضتان كبيرتان، لا يفصلها عن مقاعد انتظار الخروج للطائرة، إلا متر واحد أو أقل. في الغرفة أستاذ جامعي يمني، ومصريون يدخنون سجائر محلية من نوع «كمران»، ذات الغلاف الأزرق وموظف أوروبي في مركز أبحاث في مدينة عدن جنوب البلاد، الذي ينشط فيه تنظيم القاعدة، وانفصاليون.

ألقى الأستاذ، وهو في العقد الرابع من العمر، نظرة عبر الزجاج على مسافرين يمنيين يصحبون مرضاهم انتظارا للطائرة. قال إن هؤلاء يقصدون الخارج لإصلاح أخطاء الأطباء المحليين. شارك معلم مصري في مدرسة ثانوية صنعاء يدعى محمد - 43 سنة - في الحديث عن مستوى التعليم الآخذ في التراجع، ليس في اليمن فقط، بل الدول العربية. كان الوحيد الذي يحمل ولاعة. شرح كيف أمكنه إخفاءها في حقيبته، على الرغم من تدقيق مفتشي المطار اليمني، مشيرا إلى كم الولاعات الكبير الذي يصادره الضباط الواقفون أمام الحواجز قبل الدخول للمطار.

الموظف الأوروبي - 25 سنة - يدخن سجائر «دانهيل»، شارحا خوفه من بعض الطائرات في منطقة الشرق الأوسط، التي قال إنها ما زالت تقدم مع الطعام شوكا وسكاكين وملاعق معدنية. هذا أصبح ممنوعا في الرحلات المتجهة إلى أوروبا. قدم صورة له وهو يتناول طعاما ممسكا بهذه الأدوات المعدنية على طائرة جاءت به من عاصمة عربية إلى صنعاء. يشعر بالخوف من هذا الأمر.. «يمكن أن يستخدمها إرهابي ونحن في السماء.. يخطفنا». اتفق المدخنون على أن الإجراءات لا بد أن تكون صارمة في بلد يشكو من اضطرابات.

لم تخل غرف التدخين في مطار القاهرة من حديث شامل عن تعقيدات المنطقة، وخيارات الحرب والسلام، وعلاقتها بإجراءات التفتيش الصارمة. إحدى الغرف في المطار الجديد تقع على مسافة كبيرة من بوابات الدخول لأرض المطار. يتم العبور إليها مشيا، وبسلم أفقي متحرك أيضا. الكل يرطن واقفا. إحدى الغرف في المطار القديم المخصص لرحلات الدول الأجنبية قريبة من بوابات الوصول للطائرة، وفيها 7 مقاعد، مزدحمة دوما.. تعج بمناقشات بلهجات عربية ولغة إنجليزية مهشمة. حين تنتهي زمرة من التدخين وتخرج، تترك باب النقاشات مفتوحا للداخلين الجدد إلى غرفة التدخين. تنتهي مثل هذه اللقاءات العابرة بين مدخنين من شرق المعمورة وغربها، من دون الوصول إلى حسم لأي تصور حول الشرق الأوسط كمنطقة خالية من القلق.