«فيكتوريا كوليدج».. كلية الملوك والأمراء والمشاهير في الإسكندرية

من طلابها الملك حسين وعمر الشريف ويوسف شاهين.. وعمرها 108 أعوام

«فيكتوريا كوليدج».. مبانيها المهيبة شيدها المعماري الايطالي هنري جورا على الطراز الانجليزي («الشرق الأوسط»)
TT

صيحات طلاب يغمرها المرح لم تنقطع منذ عام 1902 تحتضنها جدران فيكتوريا كوليدج، أعرق مدارس العالم العربي، والتي تخرج فيها شخصيات سياسية وأكاديمية وفنية لعبت دورا مهما في القرنين العشرين والحادي والعشرين، في شتى أنحاء العالم.

فبين فصولها تفجرت موهبة المخرج العالمي يوسف شاهين، وبها صور أول فيلم تسجيلي في حياته، وعلى مسرحها كبرت موهبة نجم السينما العالمي عمر الشريف، حيث قدم موهبته وهو لم يتجاوز 12 عاما، وتعرف إلى صديق مشواره الفني أحمد رمزي، وفي سكن الطلاب الداخلي كان يبيت الملك حسين ملك الأردن الراحل، مستمتعا برفقه زملائه يلهون ببراءة، وفيها تخرج كبار السينمائيين مثل شادي عبد السلام وتوفيق صالح، كما درس على طاولاتها سيميون الثاني آخر ملوك بلغاريا، حيث كانت أسرته في منفاها تقيم بالإسكندرية. كذلك احتضنت المدرسة الملياردير السعودي عدنان خاشقجي، والأمير عبد الإله بن الملك علي بن الشريف حسين الهاشمي، الذي تولى الوصاية على عرش العراق، والشريف زيد بن شاكر وكان رئيس وزراء الأردن، والصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق، وعائلة الخرافي من الكويت، وقنسطنطين ملك اليونان، والكثيرين غيرهم.

سميت المدرسة عام 1902 باسم ملكة بريطانيا الملكة فيكتوريا، تخليدا لها بعد وفاتها في عام 1901، وتقع في منطقة حيوية بعروس المتوسط، ولها محطة ترام باسمها. ولا يزال السكندريون ينظرون إليها باحترام وتقدير شديدين، كلما مروا بجوارها.

بحنين بالغ، يتذكر إلهامي حسين، أقدم المشرفين في الكلية العريقة، أيام مجد الكلية، جالسا في مكتبه ذي المدفئة الحجرية إنجليزية الطراز، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: عملت هنا أكثر من 30 سنة، وكنت خلالها أشرف على قسم السكن الداخلي للطلاب وتعاملت مع طلاب من جميع الجنسيات، كانت الكلية معروفة بأنها كلية الأمراء والملوك والفنانين وهو أمر يفخر به كل من يعمل بها، وكل من ينتمي إليها، وكانت مدرسة العائلات، فكنا نربي أجيالا لعائلات كبيرة. وأتذكر أنه كانت هناك 3 عائلات من نيجيريا هي: مايديربي، وكوباوارو، ودندواكي، كانوا يرسلون نحو 200 طالب من نفس الأسرة».

ويذكر إلهامي أن أول مقر للمدرسة كان في الأزاريطة عام 1902، ثم انتقلت إلى مقرها الحالي عام 1907، ويستطرد «حينما أنشئت الكلية وضعت الإدارة نصب أعينها مستوى التعليم المتميز المتبع في الإمبراطورية البريطانية بغض النظر عن انتماءات الطلاب، وحينما بدأت المدرسة كانت تحتضن 90 تلميذا مسيحيا، و67 من اليهود و39 من المسلمين. وذاع صيت المدرسة في كل أنحاء العالم خصوصا بين طبقة الملوك والنبلاء في أوروبا ومصر وبلغت أوجها في فترة الحرب العالمية الثانية، حيث انضم إليها العديد منهم، فجمعت مصريين وأتراكا وسوريين وأرمن، ومالطيين، ويونانيين، وإنجليزيين وفرنسيين وإيطاليين وإسبانيين وهولنديين وسويسريين وبلجيكيين. كما درس بها عدد من أبناء الأسر الحاكمة والثرية في العالم العربي».

يذكر إلهامي أن المدرسة تحولت إلى ثكنة عسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولحرص الإدارة على عدم توقف الدراسة بها، انتقلت الدراسة لفندق سان ستيفانو القديم، لفترة قصيرة. وقد تحولت المدرسة بعد التأميم إلى نظام «معاهد قومية» واختفت تماما معالم الإدارة الإنجليزية، وبالطبع رفع العلم المصري مكان العلم البريطاني. تولى إدارة المدرسة 6 مدراء بريطانيين، وكانت تحتضن 6 آلاف طالب، وظلت المدرسة مفتوحة للبنين والبنات إلى أن أصبحت للبنين فقط في عام 1986. وأوضح أن كلية فيكتوريا كوليدج افتتحت فرعا لها في القاهرة عام 1948 في شبرا، قبل أن تستقر في مقرها الحالي في المعادي عام 1950.

ويشير إلهامي إلى أن المدرسة حاليا تضم 756 موظفا وإداريا ونحو 4 آلاف طالب، لكن الأوضاع مختلفة فقد كانت معايير القبول بالمدرسة مختلفة، وكان هناك مندوب يخرج من المدرسة لزيارة الطالب المتقدم في منزله ويحاول ملاحظة سلوكياته وتصرفاته، ويطلب منه إحضار كوب من الماء، ليرى كيفية تقديمه للكوب وهل سيحضره وفقا للإتيكيت أم لا!. كما كان يتحدث مع والديه ليرى مستوى تعليمهما وثقافتهما. أما الآن فلا شيء من هذا يحدث». وبأسى بالغ يقول «الطلاب في الماضي كانوا مختلفين تماما عن طلاب الجيل الجديد، والعلاقة بين المدرس والطالب غاية في الاحترام فقد بلغ الأمر بالطلاب أنهم كانوا يودون تقبيل أيدينا تقديرا لنا».

وتقول الدكتورة سحر حمودة، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة الإسكندرية، مؤلفة كتاب «فيكتوريا كوليدج» الصادر عن دار نشر الجامعة الأميركية، لـ «الشرق الأوسط»: عملية البحث والتنقيب في أرشيف المدرسة كانت شاقة جدا، إلا أنه مع البحث في سجلات المدرسة التي كانت مهملة وجدت الكثير من المعلومات الخاصة بكل ما يتعلق بالطلاب. وتؤكد سحر أن فيكتوريا كوليدج كانت أكثر من مجرد مدرسة، فقد كانت بوتقة لكل الأديان والثقافات والدراسة بها كانت لمختلف الجنسيات، فكانت بحق مرآة للمجتمع السكندري الكوزموبوليتاني في ذاك الوقت. وقد شهد افتتاحها الرسمي عام 1907، ضيف الشرف اللورد كرومر، مندوب بريطانيا السامي في مصر، والحاكم الفعلي بها في الفترة ما بين عامي 1900 و1907، ومعه زوجته السيدة كرومر، والبارون جاك دي منشه وفي حضور نخبة من الأمراء والباشوات. وألقى اللورد كرومر، كلمة بهذه المناسبة قال فيها «إننا مجتمعون هنا اليوم، في الذكرى السنوية لميلاد جلالة الملكة فيكتوريا، لوضع حجر الأساس لمؤسسة أكبر وأكثر شمولا من تلك التي كانت موجودة سابقا.. وأنا على ثقة، أن تساعد هذه المدرسة في تحقيق الانصهار السياسي والاجتماعي لدول مختلفة».

والمباني المهيبة بفيكتوريا كوليدج شيدها المعماري السكندري الإيطالي هنري جورا، على الطراز الإنجليزي الذي أدخل معه ملامح فن العمارة الإسلامية، لتعبر عن طبيعة المدرسة العالمية. وتحتل المدرسة موقعا مميزا على مساحة 36 فدانا، ويوجد بها ملعبان قانونيان لكرة القدم والعديد من ملاعب الكرة الطائرة وكرة السلة وكرة اليد وبها حمام سباحة أوليمبي، ومسرح. كما تتميز المدرسة العتيقة بمعمل علمي يفوق في إمكانياته معامل كبرى الجامعات وعمره يعود لـ 108 أعوام منذ نشأة المدرسة.

تخرج في المدرسة العديد من الشخصيات المهمة والمؤثرة في العالم العربي في شتى المجالات، ودائما ما يأتي ذكرها في كل أحاديثهم، فالبعض يدين لها بجعله منفتحا على العالم، فيما يشكو البعض من صرامة المدرسة في محاولاتها تطبيعهم بالثقافة البريطانية، ولعل أشهر ما كُتب عن المدرسة ما كَتبه الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان»، حيث قال «اتسمت حياتنا في فيكتوريا كوليدج بتشوه كبير لم أدركه حينها. كانت النظرة السائدة إلى التلامذة أنهم أعضاء، تمموا دفع اشتراكاتهم، في نخبة كولونيالية مزعومة يجرى تعليمها فنونا إمبريالية بريطانية قضت نحبها، مع أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة إنجلترا وآدابها، وعن النظام الملكي والبرلمان، عن الهند وأفريقيا، وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع استخدامها في مصر أو في أي مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة العربية يُعدان بمثابة جنحة يُعاقب عليها القانون في فيكتوريا كولدج، فلا عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا. وكانوا يمتحنوننا بصفتنا تلامذة إنجليزا، نجر أذيالنا متخلفين سعيا إلى تحقيق هدف مُبهم، يستحيل تحقيقه أصلا، من صف إلى صف آخر ومن سنة دراسية إلى سنة دراسية تالية، يواكبنا أهلنا طوال ذلك المسار منشغلي البال علينا. ثم إني أدركت في قلبي أن فيكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التي تشدني إلى حياتي السابقة، وأن ادعاء أهلي أني مواطن أميركي قد تهافت، فقد بتنا ندرك جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة، بل وقابلة لأن تؤذينا، ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر».

وتحاول جمعية خريجي فيكتوريا كوليدج تنظيم عدة لقاءات، إلا أن أبرزها هو لقاء خريجي فيكتوريا كوليدج على مستوى العالم وكان منها ما عقد في عمان بالأردن عام 1982 بدعوة خاصة من عاهل الأردن الراحل الملك حسين، وآخر اجتماع على مستوى العالم عقد آخر مرة بالإسكندرية منذ 8 سنوات بمناسبة العيد المئوي للكلية. ويحرص الكثير من خريجي المدرسة على زيارتها من وقت لآخر، ومنهم من ينتابه شعور بالحزن على حال المدرسة، فيما يجد آخرون سعادتهم في وجود أسمائهم وهي لا تزال محفورة على المناضد.

ويؤكد هاني فاروق، أحد خريجي الكلية، أن الكلية ظلت في وجدانه ويربطه بها هو وزملاءه ولاء نادر، ويقول «دائما ما تنتابني نوستالجيا لزيارة المدرسة في أيام الدراسة حتى أتذكر أيام الشقاوة والمغامرات، وأقول لأصدقائي: هنا كنا نلعب الكرة، وهنا تشاجرنا معا، وهنا كان فصلي وتختي، أيام جميلة منحتنا إياها فيكتوريا كوليدج وما زلت أعيش على ذكرياتها».

يرى العديد من الخريجين أن الكلية لم تعد هي فيكتوريا كوليدج التي كانوا يفخرون بها وفقدت رونقها ومكانتها، لكن السيدة شاهيناز بكير، تحاول بكل جهدها أن يحظى طفلها بمقعد داخل تلك المدرسة العريقة، فهي ترى أن المدرسة بها كافة الإمكانيات التي تؤهل الطالب للحصول على تعليم جيد، كما أنها ترى أن المدارس الجديدة لن تحمل ذات يوم مثل هذا التاريخ، وتقول «يكفيني أن يكون ابني في المدرسة نفسها التي تخرج فيها الملوك والأمراء وعمر الشريف».