الثقافة العراقية تعود إلى سابق عهدها وتتحدى أجواء الحرب والدمار

للمرة الأولى منذ أمد بعيد.. دور السينما تمتلئ مقاعدها والعراقيون يشاهدون أنفسهم وتجاربهم

الفيلم اعتبر بمثابة كشف حساب لماضي العراق القريب. وقال أحد الحضور: «في كل منزل وكل حي وكل شارع وكل واحد منا يوجد مثل هذا الفيلم». (نيويورك تايمز)
TT

حمل البساط المفروش على الأرض اللون الأحمر، لكن الشريط المحيط بأطرافه اتسم بدرجة بالغة من الاهتراء على نحو بدا وكأنه يعكس الشارع المحيط بمتاجره المحطمة وأبنيته المتداعية والحواجز الرمادية التي يعج بها. ومع ذلك، شهد مساء أول من أمس الخميس عودة فيلم عراقي بارز إلى مدينة افتقرت إلى الأفلام خلال السنوات الأخيرة. وداخل ممرات دور العرض أثناء حفل العرض الأول لفيلم «ابن بابل»، أبدى الحاضرون شعورا بالغا بالارتياح، لأن الثقافة تمكنت أخيرا من تحدي الاحتلال والحرب والإهمال الحكومي ومؤشرات العداء التي تطفو على السطح من وقت لآخر. المعروف أن بغداد افتخرت دوما بإنجابها شعراء وموسيقيين ونحاتين ورسامين من الطراز الأول. ويعني هذا أنه للمرة الأولى منذ أمد بعيد، وداخل دور عرض كانت لها شهرة واسعة في وقت مضى، امتلأت مقاعدها البالغة 1.800 مقعد عن أكملها تقريبا، حيث شاهد العراقيون أنفسهم وتجاربهم خلال حقبة ما بعد الحرب في أحداث فيلم أخرجه عراقي. في هذا الإطار، قال عدي رشيد، المخرج الذي قدم الفيلم: «هل تتخيلون بغداد من دون سينما؟ العراق؟ يا لها من فكرة مؤلمة. العراق من دون ثقافة ليس عراقا». وأضاف: «لهذا يعد هذا الافتتاح احتفالا». تدور أحداث «ابن بابل» حول قصة مؤثرة لصبي وجدته يبحثان عن الصلة التي تربطهما، والد الطفل ونجل الجدة، في خضم الفوضى التي ضربت العراق في الأسابيع اللاحقة لسقوط نظام صدام حسين عام 2003. لم يعد والد الطفل قط من حرب الخليج عام 1991، وتحمل رحلة البحث الصبي وجدته من كردستان في شمال العراق إلى باقي أرجاء البلاد، حيث يلتقيان بسائقي شاحنات وجنود ورجال دين وحجاج يخوضون رحلات مشابهة لرحلتهما. ويجازف الصبي وجدته بالسير عبر مناطق موحشة يقطع الصمت فيها أصوات الرياح التي تأتي أشبه بالعواء، وحيث يمران على قبور جماعية يخشيان أن يكون الأب مدفونا بها. يعد هذا الفيلم ثاني فيلم طويل من إخراج محمد الدرادجي، (33 عاما)، الذي يتميز بشعر مموج ووجه أشبه بوجه فتى مراهق. كان الدرادجي قد رحل عن العراق عام 1994 لمدة تسعة أعوام. وعلى الرغم من الإشادة التي حظي بها الفيلم وساعدت في توزيعه داخل 10 دول ومشاركته، حسب تقدير الدرادجي، في 75 مهرجانا، فإن الفيلم لم يعرض بعد في دور العرض العراقية. قبل عرض الفيلم في حفل الافتتاح بساعة، عبرت حشود من الفنانين والطلاب والصفوة المثقفة سيارات شرطية ومدرعة لتملأ قاعة صالة العرض. وكانت جدران دار العرض لا تزال تحمل صور إعلانات فيلمي «رش أور» و«غودزيلا»، بينما غطى الغبار آنية تضم زهورا بلاستيكية على طول السلالم، وتصاعد دخان التبغ، وتعالت أصوات الحضور لتخلق ضجة كانت معتادة عند حضور حفلات عرض أفلام في «سميراميس»، واحدة من آخر صالتي عرض في بغداد. منذ جيل مضى، كانت بغداد تضم 68 دار عرض تحمل أسماء مثل «الخيام» و«بابل» و«سندباد»، في إشارة لحقب زمنية ماضية.

من جهته، قال حسين متشر، مخرج تلفزيوني: «هذا الحدث أشبه بعرس. إنه عرس السينما العراقية، وعرس الثقافة العراقية، وعرس الفن العراقي». بالنسبة إلى آخرين، كان الفيلم بمثابة كشف حساب لماضيهم القريب. عن ذلك، قال هاشم خلف، (50 عاما)، رجل أعمال: «في كل منزل وكل حي وكل شارع وكل واحد منا، يوجد مثل هذا الفيلم. إن المخرجين في بلدان أخرى يعكفون لسنوات على البحث عن قصة فيلم. أما هنا، فالأمر في غاية السهولة، حيث تعج جميع الأماكن بقصص تصلح للأفلام». الملاحظ أن الكثير من الأفلام التي تتناول الحرب العراقية لم تصادف نجاحا كبيرا في تصوير المناظر الطبيعية المميزة للعراق. على سبيل المثال، نجد أن المناظر الطبيعية في الأردن المجاور، حيث جرى تصوير فيلم «خزانة الألم»، بعيدة كل البعد عن تلك القائمة في العراق التي تعكس دمار الحرب والإهمال.

نظرا لكونه عراقي المولد ويعيش في العراق، لم يجابه الدرادجي هذه المشكلة، ولا يزال يتذكر شعوره لدى عودته إلى البلاد عام 2003 عندما بدت بغداد له «مدينة أشباح». وتعد مشاهد «ابن بابل»، التي جرى تصويرها في العاصمة والناصرية والحلة التي شوهتها الحروب، بل وباتت مهجورة في بعض أجزائها، مألوفة لجميع العراقيين. وكذلك الحال مع التفاصيل التي تناولها الفيلم والتي يبدو خلالها الجنود الأميركيون المحتلون من دون هوية محددة ومصدر تهديد، وهي ذات الصورة التي يظهر بها العراقيون في الكثير من أفلام هوليوود. داخل مكتبه البالي قبل حفل الافتتاح، بدت علامات الهدوء والسكينة على الدرادجي بينما كان يعرض على ضيوفه أكوابا من الماء أو القهوة أو الويسكي، وقال إن عرض صورة صادقة شكل أمرا ثانويا بالنسبة إلى الرسالة التي رغب في توصيلها من خلال الفيلم، موضحا أن الفيلم يعد بمثابة مناشدة لأبناء وطنه.

وأوضح أنه «لا نزال نعيش في ثقافة العنف والانتقام. لكن هذا الفيلم يدور حول العدل والتسامح. هل يمكن أن نسامح عندما نملك القوة؟». وقال الدرادجي إن الفيلم واجه عقوبات بالغة. فيما يخص التمويل، توجه الدرادجي إلى المسؤولين العراقيين، من أكراد وعرب، الذين رفضوا إما شخصيات الفيلم أو الرسالة التي ينقلها. وأوضح أن البعض عمدوا إلى الوقوف في وجه طلبه. وقال: «يبدو أنهم كانوا مختلفين مع بعضهم البعض، لكنهم اتفقوا علي». وهناك آخرون لم يردوا عليه قط. وانتهى به الحال بالاعتماد على جهات خارجية في تمويل الفيلم الذي وصلت تكلفته إلى 1.5 مليون دولار. كما واجه عرض الفيلم صعوبات، فقبل ساعات من العرض الأول، ناشد الدرادجي بعض المعنيين التدخل لمساعدته في التعامل مع جهاز العرض «فيكتوريا 5 بي» إنتاج عام 1965 الموجود في دار «سميراميس» لثقته في أنه سيضعف الصوت. ومع ذلك، خلال عرض الفيلم، الذي استمر 90 دقيقة، شرع الحضور في التصفيق من وقت لآخر عند المشاهد التي تحمل مغزى عميق، مثل مشهد تسامح فيه الجدة الكردية جنديا عربيا في جيش صدام. وارتفعت أصوات التهليل عندما غسل الصبي وجه جدته بالماء قبل وصولهما إلى سجن كانا يأملان في العثور على الأب بداخله. مع عودة الأضواء إلى القاعة، بدت الدموع منهمرة من أعين نصف الحاضرين تقريبا. وعلق أحمد المالكي، طالب فنون، على الفيلم بقوله: «هذا هو العراق الحقيقي. تلك هي التجارب التي اضطررنا إلى التعايش معها وتحملها. لقد أدرك المخرج روح هذا المكان».

عمد الدرادجي إلى إقصاء نفسه عن هذا الادعاء، لكن بعد سنوات كثيرة من تصوير العراقيين من قبل صحافيين وسياسيين يكتبون قصصا خاصة بهم، أحيانا من الخارج، قال الدرادجي إن الفيلم ربما يعرض صوتا لم يكن موجودا من قبل. وأضاف: «عندما تدور كاميرا قطرها 35 ملليمترا في شوارع بغداد، فهذا يعني أن هذه الأمة لا تزال موجودة. من خلال السينما، يمكننا إثبات أننا لا نزال موجودين. كأمة، لا يزال لنا وجود ولا نزال أحياء».

* خدمة «نيويورك تايمز»