«التاريخ» على خط التجاذب في لبنان

لأن كل فريق يريد أن يكتب ما حصل على طريقته.. والتلاميذ يعتبرون الكتاب الموحد مشروع فتنة

يعتقد تلاميذ لبنان أن المسؤولين التربويين عاجزون عن وضع كتاب موحد بما جرى ويجري في العالم (رويترز)
TT

يقول محمد طباجة إنه يحب التاريخ.. منه يستمد العبر ليفهم «ما يحصل لأن الأحداث تتكرر». إلا أنه يستدرك فيوضح أن «التاريخ الموجود في المناهج التربوية اللبنانية التي ندرسها لا يرضيني لأنه مجرد تكديس للمعلومات من دون تعمق فيها يمكنني من الاستفادة منها».

محمد يعكس صورة شريحة واسعة من التلاميذ اللبنانيين الذين لم يحسموا علاقتهم بالتاريخ كمادة تعليمية إلزامية في الامتحانات الرسمية تختلف عن التاريخ الذي تقدمه بعض المدارس كمادة إلزامية في مناهجها الخاصة. والسبب أن هذه محتويات المادة لا تزال قيد التجاذب. ويعتقد تلاميذ لبنان أن المسؤولين التربويين عاجزين عن حل هذه الإشكالية ووضع كتاب موحد بما جرى ويجري في العالم.

لماذا؟ نسأل محمد، فيجيب: «لا أعرف إذا كان ممكنا وضع كتاب التاريخ وفق معلومات صحيحة، أو حتى معلومات مفيدة. لأن كل فريق يريد أن يكتب ما حصل على طريقته. كيف تريدين أن يتفقوا على كتاب تاريخ موحد في حين أن لا أحد يسمح للآخر بالاختلاف معه في الرأي؟».

ومحمد ورفاقه يريدون أن يفهموا لماذا حصلت الثورة الفرنسية أو كيف نشأ الكيان الإسرائيلي أو الظروف التي أحاطت باتفاقية «سايكس – بيكو».. لا يكفيهم أن يدرسوا أن لهذه الأحداث تاريخا محددا. يقول: «نريد أن نعرف كيف وصل لبنان إلى ما وصل إليه عام 2006. أما بخصوص الحرب الأهلية، فنحن كلبنانيين نحتاج إلى أن نفهم كيف حصلت بحيث يتعلم منها الناس كيف يتجنبون حروبا مقبلة، لكن من دون أن تكون المعلومات التي تقدم إلينا غير مدروسة أو مؤذية أو مهينة للطوائف والأحزاب، وإلا يمكن أن يسبب كتاب التاريخ فتنة بين اللبنانيين».

فالتلاميذ في لبنان قبل أساتذتهم يعتبرون أن كتاب التاريخ الموحد الذي نص عليه اتفاق الوفاق الوطني في الطائف، لا يزال حلما مستحيلا بسبب حدة الاصطفاف الطائفي. إلا أن حسين هزيمة، وهو تلميذ في السنة الثالثة الثانوية ويستعد لدخول الجامعة، يقول: «حتى اتفاق الطائف الذي أقر قبل 21 عاما، أي قبل ولادتي، نمر عليه مرور الكرام لأنه غير مطلوب في الامتحانات الرسمية».

والجدل بشأن كتاب التاريخ لا يتوقف في لبنان. ففي حين ينص الدستور اللبناني على حرية التعليم، ينص «اتفاق الطائف» في باب «الإصلاحات الأخرى» التي أوصى بها، وبالتحديد تحت فقرة «التربية والتعليم» على «إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية».

إلا أن مسألة «توحيد كتاب التاريخ» تتناقض مع مسألة «حرية التعليم». وقد أتى الاتفاق على ذكرها من دون توضيح كاف، فبقيت غامضة.

وقد أثير «التاريخ» بأسلوب عاصف في الأيام القليلة الماضية عندما عرضت إحدى الصحف مضامين منسوبة إلى كتاب يدرس في إحدى المدارس الخاصة التي تلتزم المنهج الأميركي، صنفت مسيئة لإيران وحزب الله والفلسطينيين والمقاومة. كما أثير بشكل أكاديمي من خلال ندوة تولى الكلام فيها عدد من الخبراء التربويين، بالإضافة إلى وزير التربية، الدكتور حسن منيمنة، الذي وعد بالعمل على إنجاز الكتاب الموعود منذ عام 1989. وبالفعل لم يتأخر منيمنة في إطلاق عمل اللجنة المختصة التي «ستحاول أن تعيد تقديم كتاب التاريخ بصورة يتفق عليها اللبنانيون كافة، بما يسهم في تكوين شخصية التلميذ اللبناني ويحظى برضا اللبنانيين».

وبانتظار تحقيق هذا الوعد يدرس بعض التلاميذ مثلا أن «الفتاة اليهودية آن فرانك وعائلتها ضحية النازية والعنف والحقد». ويدرس تلاميذ آخرون أن «سيرة مثل هذه الفتاة ليست سوى قصة مفبركة ووسيلة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي. وليس صحيحا أن لا علاقة لها بالصهيونية واغتصاب فلسطين والنزاع العربي - الإسرائيلي، لذا يندرج مجرد سرد سيرتها تحت خانة الخيانة والمؤامرة على الصمود والمقاومة. أكثر من ذلك، فيها قلة احترام وتطاول على سير الشهداء».

وبين هاتين الرؤيتين يبقى السجل التربوي والسياسي دائرا حول كتابة تاريخ لبنان وحول كتاب التاريخ المدرسي في لبنان، فهو مادة متفجرة لدى السياسيين ومادة جافة لدى التلاميذ الذين يعجزون عن فهم ما يجري في بلادهم أو في العالم، لأن الممنوعات يرتفع منسوبها. وأي معلومة تخضع للاختلاف على النظرة إلى لبنان وماضيه ومستقبله. أما التلاميذ فيخرجون من هذا التجاذب ببعض المعلومات السطحية المتناقضة والمتضاربة مع واقعهم ووعيهم.

تقول التلميذة مانويللا قيس (17 عاما): «يجب تغيير الكتب التي ندرس فيها. فتاريخنا ليس مقتصرا على ذكرى الاستقلال وقلعة راشيا التي اعتقل فيها عدد من الزعماء لفترة قصيرة. هناك دول تدخل على خط مصيرنا وتحالفات لم تكن موجودة يجب أن نتعلمها لنفهم الاختلافات السياسية التي أدت إلى وقوع الأحداث التي نعيشها».

والهوة بين التلاميذ تبدو أكثر وضوحا ليس فقط نتيجة الانقسام الحاد بين رؤيتين للتاريخ الذي يدرسونه باختلاف مدارسهم. إنما لأنهم أولاد بيئاتهم المتعددة. تقول ريتا حداد: «من يدرّسنا التاريخ لا يؤمن بالشعارات الداعية إلى الانصهار والقبول بالآخر والعيش المشترك. أحد أساتذتنا متعصب ومتطرف. فإذا أتى إلى ذكر الفلسطينيين مثلا يتحامل عليهم بشكل غير تربوي». ويقول حسين هزيمة: «تلاميذ لبنان لن يعرفوا ما إذا كانت الأحداث التي عاشها أجدادهم ويلات أم انتصارات».

ويرفض حسين كتابا موحدا «يمكن أن يكتبه من يعتبر الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان أمرا طبيعيا. مثل هذا الكتاب يؤدي إلى فتنة بين اللبنانيين». إلا أن رفيقه، محمد علامة، يقول: «لا نستطيع أن نرفض ما حصل على أرضنا. المفروض أن يعطينا كتاب التاريخ ثقافة عامة لنستفيد منها. لكنه حاليا لا يؤمن المطلوب. يجب أن يتم تأريخ كل ما حصل ويحصل. يجب أن نكتب الحقائق كما هي من دون مراعاة لهذه الطائفة أو تلك. وإذا انتظرنا أن تتغير التركيبة اللبنانية وتهدأ الطوائف ربما لن نكتب شيئا». واعتبر علامة أن «التلاميذ اللبنانيين غائبون عن دراسة ما يحصل في العالم. نحن لا نعرف شيئا عن التاريخ الحديث ما بعد الحرب العالمية الثانية. حتى لو كانت المعلومات التي حصلت قد تؤدي إلى فتنة فلتحصل هذه الفتنة وتنفجر في وجه من يسعى إليها لننتهي منها. لكنهم حاليا يضحكون علينا من خلال المادة التاريخية الركيكة التي يلزموننا بدراسة فصولها للامتحانات الرسمية».