عرض تفاعلي راقص في بيروت يعتمد على مشاركة الجمهور

لتحرير الأجساد المكبلة من قيودها.. نادرة عساف تواصل تجاربها الجريئة

فرقة نادرة عساف (السراب) أثناء التمارين («الشرق الأوسط»)
TT

تجمّع الفضوليون أمام باب كنيسة «القديس يوسف» التي ضرب لهم موعد في قبوها. بين المنتظرين طلاب، وأساتذة جامعيون، وكهول، ورجال ونساء، أناس من كل الأعمار، جاءوا بعد أن جذبهم إعلان يحمل عنوان «I matter» ويعدهم بعرض تفاعلي راقص، مع أستاذة الرقص الشهيرة نادرة عساف، التي يتابعونها كعضو في لجنة تحكيم برنامج «استوديو الفن» التلفزيوني. يقول الإعلان أيضا: «في عالم غالبية أناسه لا يعنون بالآخرين، أنا أحدث الفرق. وفي عالم لا أحد يهتم فيه بالأشياء الصغيرة والبسيطة، أنا أحدث الفرق. نعم، أصنع الفرق لأنني موجود، ولأنني أعمل ولأنني أنا».

عند الثامنة تماما، يفتح باب القبو، وتستقبلنا آنسة تمنح كل منا خشبة صغيرة كتب عليها بالإنجليزية «matter». ندلف إلى قبو هذه الكنيسة التاريخية، المهيب والجميل ونفاجأ، بمسرح كبير، بعلو منخفض يتوسط البهو وأعمدته الضخمة، بينما تركت لنا المساحة حول المسرح لنتجول، ونشاهد الراقصين والراقصات، يقومون بتمارين أشبه باليوغا، ويبتسمون للحضور.

يشعر الحاضرون الذين تم اختيار 35 منهم فقط لكل عرض، أنهم لا يعرفون ما يفعلون، فهنا لا كراسي، ولا مكان مخصصا للجمهور، مجرد بهو كبير توسطته الخشبة وصالة أخرى كبيرة داخلية وضعت في زاوية منها مستلزمات الـ«دي جيه» الذي سيعنى بالموسيقي. في صدر هذه الصالة تقف نادرة عساف على قاعدة حجرية وتبدأ رقصا بطيئا، قبل أن تلتحق بها باقي الفرقة وتملأ الصالة التي أعطاها بناؤها الحجري القديم جوا خاصا، يبدأ رقص أشبه بالتمارين من دون أي نغمة موسيقية. نادرة عساف تجر الحضور واحدا بعد الآخر إلى وسط الصالة، تعنى بأن تنزع عن كل شخص جاكيتته ونظاراته وكل ما يثقله، وهي تشرح له أنه مهم، وأن العالم رديء لكنه كفرد لا بد أن يشعر بمكانته. يستسلم الحاضرون لما يطلب منهم، خطوتان للأمام، تقول نادرة، ثم خطوتان للوراء، لكن التجاوب يبقى مترددا أحيانا. تنتبه الراقصة إلى أن اللغة الإنجليزية التي تعتمدها، ربما لا يفهمها هذا الجمهور الذي هو على الأغلب فرنسي الثقافة، لذلك تسرع إلى العربية لإنقاذ الموقف. فيتحرك الجمع ويرقص، مع الفرقة، ويختلط الجميع في مشهد واحد، إلا بعض المتمنعين الذين يفضلون البقاء وقوفا بمحاذاة الحائط. تحاول نادرة أن تركز على بعض الذين استهوتهم اللعبة، تشكل معهم مشاهد راقصة، وخطوات موحدة. لا يتردد الراقصون أيضا في لعب دور في ترقيص الحاضرين. نظرات في العيون، محاولة في التأثير الصامت، واستدعاء هذا الشخص أو ذاك ليشارك بحيوية. «لا يجب أن تبقى مكانك» تقول نادرة لأحدهم: «الحياة هي أن تتحرك أن تتخلص من الأشياء الثقيلة التي تحملها».

تصدح موسيقى صاخبة، الراقصون والراقصات الذين يصل عددهم إلى ما يقارب العشرين، لا يتوقفون عن الرقص، لكن الحضور يتراجع في غالبيته إلى الوراء، تاركا الساحة للفرقة. تبدل النغمات الموسيقية، وتقلبها السريع، لا يدفع الحضور لأن ينخرط في تحريك جسده بالقدر المطلوب. شيء ما كان يمنع هؤلاء من أن يدخلوا اللعبة التي جاءوا متحمسين للمشاركة فيها، لعله الخجل، أو عدم انسجامهم مع موسيقى، بقيت نخبوية وإيقاعها غير مستساغ للعموم.

وقبل أن يشعر الحاضرون بأن وقوفهم قد طال والتعب بدأ يدب في أرجلهم، أخذ أعضاء الفرقة، وهم ما يزالون يرقصون يمسكون بأيدي الحاضرين، ويسحبونهم إلى البهو حيث نشاهد على الخشبة فتاتين مقيدتين بشريط لاصق، إحداهما أجلست على كنبة واطئة بينما أجلست الأخرى على كرسي طويل الأرجل ومرتفع. تحاول الفتاتان في مشهد راقص أن تتخلصا من الشريط الذي أوثق الأيدي والأرجل وكمم فم إحداهما، كما زنر جسديهما. عرض قصير، للفتاتين المقيدتين، لتثوير الأحاسيس والتحريض على الحرية، وتكسير القيود.

لذلك فإن الراقصين سرعان ما يسحبوننا بصمت ومع ابتسامة صغيرة، وهم يمسكون بأيدينا ليعيدونا إلى الصالة الثانية، وتبدأ الفرقة رقصا أكثر صخبا، يمتزج في إحدى اللحظات بصراخ مدو. رقصة الحرية التي شاهدناها ستمهد لمرحلة جديدة مع الحضور حيث يحاول الراقصون ليس فقط، التحريض على المشاركة، وإنما حمل الحاضرين رجالا ونساء. نادرة عساف بقامتها الصغيرة، تستدعي أحد الرجال وهو على الأرجح، وزنه ضعف وزنها وتتمكن من حمله على إيقاع الموسيقى، وستنجح أيضا في حمل رجل ثان يفوقه وزنا، قبل أن تصبح لعبة حمل الناس بعضهم بعضا جزءا من الرقصة الجماعية. هنا يبدو أن بعض الحاضرين، أصبحوا أكثر حماسة وانخرطوا في الأجواء، قبل أن نستدعى جميعنا لاعتلاء المسرح وتأدية رقص جماعي مشترك.

صفق الحضور لنفسه بقوة وللراقصين. البعض كان يشعر بالامتنان لأنه لم يرقص منذ مدة كبيرة، خاصة بعض كبار السن، فيما قال آخرون، إنهم لم ينسجموا في اللعبة، ولم يشعروا باندماج لا مع الموسيقى ولا مع الكلام الذي أريد منه شرح الفكرة من هذا العرض التفاعلي الراقص الذي يستمر أربعين دقيقة، أصرت خلالها نادرة عساف، على خلق جو خاص محاط بشروط صارمة، بحيث لا يتعدى الحضور 35 شخصا، كما يمنع دخول أو خروج أي شخص من الباب الرئيسي أثناء العرض. ولعل بقاء البعض باردا، مع كل الجهود التي بذلتها نادرة عساف وفرقتها (السراب) متأت من إصرارها على استخدام اللغة الإنجليزية، فيما المطلوب أن يشعر المشاركون بعفوية وتلقائية ما يفعلون، فيما بقيت الموسيقى الغربية، ذات إيقاع خاص بعيد عن ذاك المعتاد بين الناس. فثمة مقطع موسيقي مثلا كان عبارة عن مزيج من خرير ماء يرافقه البيانو. والمقطوعات المختارة جميلة للغاية، وتنم عن ذوق مترف لكنها على ما يبدو لم تخترق قلوب عموم الجمهور. وخلال ثلاثة أيام كان آخرها مساء السبت الماضي، استمرت هذه العروض بمعدل ثلاث مرات في الليلة الواحدة. ورغم أن المشاركة لم ترض غالبية الحاضرين، فإن لبنان بلد يقبل أهله على كل غريب، لا بل ويستبسلون من أجل عدم تفويت الفرصة، وهو ما يشجع الفنانين على ابتكار الأفكار الجديدة. فبعد عرض «مثلي مثلك» الذي أشرك الجمهور في التمثيل، وحفلات «الكارا أوكيه» التي تستجلب الشباب للمشاركة في الغناء، كان لا بد من محاولة إرقاص الجمهور، وإقناع كل شخص بتحرير جسده، «لأنه مهم، ولأن ما يفعله مهما كان صغيرا، سيكون مؤثرا».

نادرة عساف مصممة رقص جريئة أثارت صخبا كبيرا في «ربيع الثقافة» في البحرين عام 2007 بسبب الكوريغرافيا التي صممتها لعرض «مجنون ليلى» على ألحان مارسيل خليفة وكلمات قاسم حداد، وتسجل لها مبادرتها هذه في بيروت التي اعتبرتها «لحظات من العمر»، فهي سيدة تهوى التجريب، ويقودها حبها للمغامرة وعشقها للرقص، لأن تقوم بمحاولات قد تصيب أو تخيب لكنها تبقى مصرة على أن تخرج من عندها، وقد بقي شيء منها في جعبتك. وهذه المرة تبقى لك تلك القطعة الخشبية التذكارية الصغيرة التي أعطيت لك قبل دخولك إلى العرض، التي تحملها وأنت تغادر وتردد «I matter».