سوق الخياطين الدمشقية.. فقدت اختصاصها وبقي الاسم

مشيَّدات تاريخية بجوارها جعلتها تستقطب زوارها على مدار العام

TT

داخل بقعة تميزت منذ القديم بثرائها المعماري والتاريخي، مزدحمة بأسواق دمشق القديمة، توجد سوق دمشقية ظلت لعشرات السنين مقصدا للباحثين عن أحدث تصميمات البدلات العربية التقليدية والإفرنجية.. هي سوق الخياطين.

وعندما تنتهي أزقة منطقة الحريقة وبداية تفرعات سوق مدحت باشا وعلى كتف من سوق الحميدية وسوق الحرير، يرى متجول هذه المنطقة القادم من نهاية منطقة الحريقة لوحة فريدة كُتبت عليها أربع كلمات بالخط العربي على السقف الهرمي: «سوق الخياطين ترحب بكم»! وبدخول الزائر السوق، ستكون المفاجأة أن فيها كل شيء إلا الخياطين ومقصاتهم وماكيناتهم اليدوية أو الآلية! فالسوق التي حافظت على تخصصها منذ تأسيسها في أواسط القرن التاسع عشر ببيع مستلزمات الخياطة، واكتظاظها بعشرات الخياطين في محلاتها، انقلب اختصاصها رأسا على عقب.

وبعد أن كان يصطفّ من هناك في خمسينات القرن الماضي الباحثون عن أجود الأنسجة وبخاصة الجوخ الإنجليزي الشهير ليتباهى الرجال الدمشقيون به وهم يلبسون البدلات المفصلة منها، تحول معظم محلاتها إلى بيع الألبسة الجاهزة النسائية والرجالية، التي تتميز بشعبيتها وأسعارها رخيصة الثمن نسبيا، وكذلك تحولت بعض محلاتها لبيع ألبسة الأطفال وأغطية الرأس التراثية كالطرابيش وغيرها وبيع بعض الإكسسوارات الخاصة بالتزيين والتجميل وغيرها.

ويتأوه ياسين صالحاني (أبو محمد)، وهو أحد أقدم مستثمري محلات سوق الخياطين، متحسرا على حال السوق بعد انقراض مهنة الخياطة في دمشق، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «أنا موجود في السوق منذ أربعين عاما وكنت أبيع في محلي مستلزمات الخياطين مثل الخيطان والإبر والكشتبانات وغيرها، وكان الكثير من خياطي دمشق وحتى المدن الأخرى يقصدون محلي ومحلات زملائي لشراء هذه المستلزمات».

وأضاف صالحاني: «أقمنا علاقات صداقة معهم وكانوا يستشيروننا في حال تعطلت ماكينات خياطتهم، كانت العلاقة معهم حميمية ولكن منذ أكثر من 25 عاما ومع دخول مختلف أنواع الألبسة الجاهزة في معظم أسواق دمشق قل عدد الخياطين بشكل كبير». وعزا صالحاني إلى تأثر تجارته بذلك اضطرارَه مع بعض زملائه تغيير اختصاص دكاكينهم. قال: «صرت أبيع الطواقي وألبسة الأطفال والوسائد وغير ذلك، وهناك من حوّل دكانه من زملائي لبيع المجوهرات الذهبية والتقليدية وبعض أصحاب المحلات الكبيرة نسبيا حولوها لبيع أغطية النوم والبطانيات وغيرها».

مضيفا: «حاولوا أن لا يبتعدوا كثيرا عن تخصصهم السابق ببيع الأقمشة أو تفصيلها ومن تخصص بذلك الخياطين الذين ظلوا يحنون لأيام التفصيل للبدلات ومجيء الزبون عدة مرات إليهم ليقيس بدلته ويعمل بروفة (تجربة) قبل أن يأخذها جاهزة».

والسوق التي وُجدت بشكلها الحالي قبل نحو 125 عاما ولها تفرعات كثيرة، تسمى بجادة سوق الخياطين، ومنها فرعه المسمى «سوق القلبجية» حيث تشير لوحة الدلالة عليه إلى أنها تسمية تركية تدل على لباس الرأس.

وهذه التفرعات غير مسقوفة ومكشوفة ولكن تتميز بوجود الأقواس من أعلاها بشكل معماري جميل وأزقتها ضيقة حيث تنتشر المحلات على جانبيها كان هذا السوق موجودا - كما يؤكد المؤرخون - في العهد المملوكي وعرفت باسم سوق «الخواصين»، كما كان يسمى القسم الشمالي منه بالقبانين نسبة إلى الذين كانوا يقومون بوزن الأشياء الثقيلة التي لا يستطيع الميزان العادي وزنها.

لذلك كان يستعمل «القبان» الكبير لوزن المنتجات لبيعها، وبعد فترة من الزمن سمي هذا القسم الشمالي «القلبقجية» نسبة إلى حرفيي السوق العاملين بالقبّان، أما القسم الجنوبي الممتد إلى سوق «مدحت باشا»، فكان يعرف «بالطواقين». هذه التسمية أطلقت في أواخر العهد المملوكي بسبب بيع «الأطواق: الخمار» النسائية في السوق.

وتعرف السوق بأنها خاصرة سوق «مدحت باشا» وأبو الأسواق في «دمشق» القديمة، ولكن ما يميز سوق الخياطين عن غيرها من الأسواق هو وجود عدد من المباني التاريخية بجواره أو بداخله ما زالت تستقطب السياح وزوار دمشق بشدة، منها خان بلال الحبشي (الجوخجية) الذي يعود إلى العهد العثماني، ووُجد فيه عدد من محلات بيع أقمشة الجوخ بمختلف مصادرها وأنواعها.

كما وجدت فيه ورش الخياطين، وبجوار الخان هناك حمام تاريخي، يصل عمره إلى نحو 130 عاما. ورغم تهدم أجزاء منه وتحول بعض أقسامه إلى دكاكين في سوق الخياطين فإن زخارفه ورسوماته ما زالت قائمة على قبته الرئيسية التي تعلو القسم الخارجي من الحمام.

وترسم القمرات (الزجاجيات التراثية التي يدخل منها الضوء إلى داخل الحمام) على أسطح قسم الوسط والقسم الداخلي وتعلو القبة أضلع خشبية تشكل ما يسمى «الباروكة»، ولكن أجزاء كثيرة من الحمام تهدمت وأزيلت ومنها بحرته وباحة القسم البراني الرخامية وإحلال أرضية إسمنتية مكانها كما زالت رسوم وزخارف الجدران.

ويأمل الكثير من زوار السوق وأصحاب المحلات فيه أن يرمم هذا الحمام الجميل ويتم توظيفه لأغراض تراثية وسياحية وثقافية. وكان الحمام قد رُمم في عام 1906 من قِبل وجيه دمشقي يُدعى الحاج أحمد السيروان.

وبجوار سوق الخياطين يوجد أيضا ضريح وجامع نور الدين زنكي حيث يلتصق تماما بمبنى السوق ويشاهَد من خارج السوق بينما مدخله وبابه في داخل السوق المتفرع من سوق مدحت باشا. ونور الدين زنكي خلّف الكثير من المنجزات الهامة في دمشق والمدن السورية الأخرى ومنها البيمارستان النوري.

ويتميز المبنى التاريخي بقبته الجميلة المبنية من حجر الآجُرّ كحال البيمارستان النوري في منطقة الحريقة، ويعتبر المبنى من أجمل مشيَّدات العهد الزنكي في دمشق حيث بُني بالحجارة التراثية صفراء اللون وبالأقواس المعمارية العربية والزخارف والخطوط الهندسية، وكان جامع نور الدين قد رُمّم آخر مرة في عام 1992 على نفقة الحاج الدمشقي موفق الخجا وأولاده، كما تشير لوحة معلقة على واجهة الجامع الأمامية المجاور للسوق.