الفدائي «شيزام».. حدوتة إسماعيلاوية عمرها 80 عاما من المقاومة الوطنية

يتجول بأنواطه ونياشينه وحلته العسكرية في شوارعها وميادينها

رفض شيزام أن يهاجر كما هاجر أهالي الإسماعيلية وظل واقفا على الجبهة أكثر من 7 سنوات («الشرق الأوسط»)
TT

حدوتة إسماعيلاوية، يجددها كل يوم في شوارعها وميادينها ومقاهيها هذا الرجل الذي يحمل على كاهله 80 عاما قضى أغلبها في النضال الوطني. إنه «شيزام - الكوماندوز» المحارب الفدائي الذي قهر الإنجليز بأعماله الفدائية وعبر قناة السويس في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، ولا يزال يرتدي خوذته وحلته العسكرية المزينة بالميداليات والأنواط العسكرية يتجول في الشوارع بدراجته البدائية حاملا مذياعا صغيرا يحيي به المارة ويحكي به قصة كفاح المدينة.. كما يكون حاضرا بمظهره اللافت في كل المناسبات العامة والرسمية ليصافح الضيوف الرسميين والشعبيين قاصدا تذكير الجميع بتاريخ المقاومة الوطنية.

يعتز شيزام كثيرا بقلم من الذهب الخالص أهداه إليه أحد أمراء المملكة العربية السعودية في أعقاب حرب أكتوبر فأهداه للرئيس الراحل أنور السادات ليستخدمه الأخير في توقيع معاهدة السلام.

«شيزام» لقب اكتسبه من جنود الاحتلال الانجليزي الذين رأوه وهو ينقض على بعض الضباط الإنجليز من فوق شجرة فبدا وكأنه مثل الطائر الأسطوري الذي عرف في الأدب الإنجليزي بـ«المباغتة» وسرعة الانقضاض فأطلقوا عليه هذا الاسم من حينها، كما يعرفه جميع أهالي الإسماعيلية بالفدائي «الكوماندوز».

ورغم تجاوز «شيزام»، أو محمد محمد خليفة، الثمانين بقليل فإن ذاكراته ما زالت تحفظ عن ظهر قلب تاريخ المدينة وأعمال الفدائيين الذين كان واحدا منهم وقائدا لهم.. تقلد العشرات من الأوسمة والأنواط والميداليات، وحصل على أكثر من 65 شهادة تقدير من الرؤساء وكبار رجال الدولة تقديرا لدوره في الكفاح الوطني ضد الإنجليز وفي المقاومة ضد الصهاينة حتى نصر أكتوبر العظيم.

يفتخر شيزام بأن جده لوالده هو محمد زهران أحد شهداء مذبحة دنشواي الشهيرة التي قام بها الإنجليز وأعدموا عشرات من شباب القرية.. ويروي وعلامات الشيخوخة تظلل وجهه المشرق «تربيت في جميع منازل الإسماعيلية بعد أن جئت للمدينة هاربا من والدي في المنوفية لزواجه بسيدة أخرى عقب وفاة والدتي. وكنت وقتها طفلا لم أتعد بعد الثامنة من عمري، وتركت أسرتي وأخواتي لعدم تحملي كطفل أن أجد في المنزل سيدة أخرى غير أمي.

أتيت للإسماعيلية في عام 1936، كانت مثلها كباقي محافظات مصر الإنجليز يعيثون فيها ليل نهار، لكن الإسماعيلية كان لها وضع خاص لوجود قناة السويس، وكان الإنجليز فيها موجودين بأعداد كبيرة. لم أكن أدرك في البداية أن الإنجليز محتلون لنا، لكن مع مرور الوقت بدأ سوء تعاملهم مع المصريين وقيامهم بتفتيش المواطنين وتعديهم على البعض في سخرية وتهكم منهم، وكان مشهد قيام جندي إنجليزي بالتعدي على سيدة فلاحة كانت بصحبة زوجها ومحاولة اغتصابها أثار غضبي، فقمت بضرب الجندي، خطفت سلاحه الآلي وأطلقت عليه الرصاص وقتلته، وتمكنت من تهريب السيدة وزوجها، وقمت بالهرب عند أحد الوطنيين بالقاهرة لفترة ثم عدت للإسماعيلية لأنضم بعدها لصفوف المقاومة الوطنية».

وبذاكرة يحسده عليها كل من يتحاور معه بدأ شيزام في سرد عشرات من الأعمال الفدائية التي قام بها مع زملائه ضد الإنجليز، يقول «قمت بعمل كمين بالاشتراك مع زملائي الفدائيين للحصول على السلاح، حيث قمنا بترصد لإحدى السيارات المحملة بالأسلحة، وأثناء مرورها في طريقها للمعسكر كنا قد أعددنا عددا من الأغنام تحت شجرة على جانب الطريق، وأثناء مرور السيارة كنت معلقا أعلى الشجرة، وقمت بإلقاء الحجارة على الأغنام التي هرعت لعرض الطريق وأوقفت سير السيارة، فقمت وزملائي بالهجوم على قائد السيارة وقتلناه، وقمنا بالاستيلاء على جميع الأسلحة التي كانت موجودة بالسيارة، وقمنا بإلقاء الشاحنة في الترعة».

وعن أهم تلك العمليات يقول شيزام «كانت عملية (عربة البرتقال) التي خسر فيها الإنجليز عددا من الجنود إحدى أهم العمليات التي زلزلت القيادة البريطانية في منطقة قناة السويس، حيث أعد أحد الفدائيين قنبلة مصنوعة من أسطوانة غاز وقمنا بإخفائها بعربة تجرها الحمير مليئة بالبرتقال عند كوبري سالا، ومع تجمع الجنود الإنجليز عليها قام واحد منا بالتحدث مع البائع قاصدا إبعاده عن موقع التفجير، وانفجرت العربة ماحية معها الجنود من حولها».

بين خروج الإنجليز من مصر وقيام ثورة يوليو وتأميم قناة السويس كان شيزام بالإسماعيلية لا يزال متطوعا في الحرس الوطني رغم جلاء الإنجليز عن مصر، إلا أن العدوان الثلاثي في عام 1956 كان ردا من القوى العظمى على قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، فعاد شيزام ورفاقه لصفوف المقاومة الوطنية وقاموا بعمليات فدائية على الضفة الشرقية لقناة السويس ضد اليهود والإنجليز في بورسعيد.

يقول شيزام إنه بقرار جمهوري أصدره الرئيس جمال عبد الناصر تم تعيينه في هيئة قناة السويس «ميكانيكي» على أن يكون متفرغا للحرس الوطني، وكان هذا تكريما من الرئيس الراحل له حتى يضمن دخلا ثابتا يتمكن من العيش به.

ويتابع شيزام أنه في إحدى الزيارات التي قام بها الرئيس الروسي لمنطقة قناة السويس كان موجودا، وطلب المهندس محمود يونس رئيس هيئة قناة السويس وقتها من أحد العاملين أن يلقي كلمة تحية للرئيس الروسي، فأخذ منه مذياعا صغيرا كان يحمله وقام بتحية الرئيس باللغة الروسية، ومنذ ذلك الوقت وهذا المذياع لا يفارقه، يتنقل به في كل مكان ويحمله معه في جميع الزيارات الرسمية التي يقوم بها الزعماء والسفراء العرب والأجانب للمنطقة ليلقي به التحية عليهم وهو يرتدي ملابسه العسكرية.

ويتذكر شيزام نكسة 1967 التي حلت بمصر واحتلت إسرائيل فيها سيناء، ويذكر كم الألم الذي أصاب الشعب المصري وما آلت إليه الإسماعيلية من دمار وخراب بسبب الهجمات الشرسة من الطيران الإسرائيلي على المدينة الآمنة، إلا أنه عندما تأكد لديه خبر احتلال سيناء وشاهد بعينه تقهقر الجيش المصري لغرب القناة ركض نحو شط القناة ليرى بعينه احتلال سيناء.

حينها رفض شيزام أن يهاجر كما هاجر أهالي الإسماعيلية وظل واقفا على الجبهة أكثر من 7 سنوات قائدا لصفوف المقاومة الشعبية يحلم بساعة الصفر لعبور الضفة الشرقية لقناة السويس وتحرير سيناء. حتى تحقق أمله وعبر قناة السويس في معركة العبور 1973.

يقول شيزام «مساء يوم 6 أكتوبر كانت هناك بعض القوات المصرية التي لم تتمكن من عبور قناة السويس نظرا للقصف الشديد للمدفعية الإسرائيلية، الذي تركز عند نقطتي الفردان والقنطرة شرق، وكنت وقتها الفدائي الوحيد الذي عبر القناة مع القوات المصرية، ووقتها أمر قائد إحدى فرق المشاة بعض القوات الخاصة بالتسلل عبر مياه القناة حاملين عبوات البنزين لإشعال موقع المدفعية الإسرائيلية. في الظلام كنت أزحف على التبة المرتفعة دون أن يشعر الجنود الإسرائيليون، وتمكنت من الوصول إلى فتحات التهوية وأفرغت بها عبوات البنزين، وبعد دقائق كانت قاذفات اللهب تشتعل بالموقع الحصين الذي استولينا عليه فيما بعد وأقمنا به دشمة حصينة».

ويذكر شيزام أهم العمليات التي قام بها في حرب أكتوبر ومنها عملية «جبل المر»، حيث «صدرت أوامر يوم 9 أكتوبر بالاستيلاء على جبل المر، ذلك الجبل الذي أذاق مدينة السويس خلال حرب الاستنزاف (1968 - 1970) الويل والدمار، فكانت المدينة تحترق يوميا تقريبا بسبب ما تصبه عليها القوات والمدرعات الإسرائيلية التي كانت تخرج لتضرب المدينة ثم تعود للاختباء بحصونها المنيعة بالجبل. وعندما بدأت الحرب استخدمته القوات الإسرائيلية للسيطرة على الجيش الثالث، وكان الجبل منيعا، لكننا بالفعل بدأنا في مهاجمته، وبعد وقت عصيب وصلنا إلى مقر الجنود الإسرائيليين، وتمكنت بعد معركة شرسة من تدمير دبابة بسلاح آر بي جي، وبدأت أهلل الله أكبر الله أكبر، ثم قمت بمطاردة 12 دبابة أخرى هربت».

حصل شيزام على عشرات الميداليات والأنواط العسكرية، أبرزها نجمة سيناء التي منحها له الرئيس الراحل أنور السادات. ورغم انتهاء الحرب وتحرير سيناء فإن شيزام لا يزال يرتدي الحلة العسكرية التي زينها بالنياشين، ووضع بجانبه مسدسا ألماني الصنع كان قد اغتنمه من أحد الأسرى الإسرائيليين السبعة الذي تمكن من أسرهم في حرب أكتوبر.

ويرفض شيزام خلع ملابسه العسكرية، فهو لا يزال يعتقد أن حرب التحرير لم تأت بعد، فما زالت فلسطين محتلة. شيزام الطائر الجارح الذي قهر الإنجليز وأسر اليهود أجل مشروع زواجه حتى بلغ الستين من عمره، وأنجب عبد الله (23) عاما، تخرج في كلية الآداب، وهاجر (18)عاما، طالبة جامعية.