مروي.. إمبراطورية منسية على النيل

احتضن اللوفر معرضا عنها

تمثال لرجل ضمن المعروضات في معرض اللوفر
TT

ما الذي يعنيه لنا السودان، وما الذي نعرفه حقيقة عن السودان، وكيف نرى هذا البلد العربي والأفريقي المختلط. ما هو تاريخ السودان، وما هي الحضارة التي سكنته؟ ما هو واقعه وحاضره وما هو ماضيه؟ وهل لدينا، نحن في العالم العربي، معلومات كافية، عن هذا البلد، الذي نسمع عنه، يوميا ولا نعرف عنه إلا القليل، وهل السودان هو فقط ما قرأنا عنه من كتابات الطيب صالح أم أن هذه الكتابات كانت فقط نتاجا ثريا لشخص أحب بلده كثيرا فكرمه بكتابات عظيمة. وهل السودان هو فقط ما تم اختزاله، اليوم، في مسألة دارفور ومسائل الفقر والمجاعات. أم أنه بلد لا يزال علينا في العالم العربي بذل جهد كبير من أجل معرفته.

لم تكن هذه الأسئلة الوحيدة التي طرحتها على نفسي بعد زيارة استمرت أربع ساعات قضيتها مندهشا في المعرض الضخم الأول عن السودان «مروي: إمبراطورية على النيل» الذي يقيمه متحف اللوفر في باريس. يدور المعرض حول إمبراطورية مروي التي تتصل بالحضارة الفرعونية من خلال الكثير من التيمات المشتركة ومن خلال التاريخ المشترك في البقعة الجغرافية المشتركة. لكن البلد الجار أعلى النيل، لكثرة ما كان تاريخه ساطعا ومجيدا، عتم الرؤية كثيرا عن جيرانه، السودان بهذا المعنى، ظلم من غير سبب، سطوع أضواء الفراعنة أبقته في العتمة لقرون طويلة. وهو أمر مستمر لغاية اليوم، حيث إن السودان بفضل مشاكله الكثيرة بلد لا يملك ترف البحث عن تاريخه القديم، وربما حتى عن تاريخه القريب جدا. في هذا المعرض نتعرف على السودان، على أنه ليس فقط ولادة نزاعات وقتال أهلي، وليس فقط بؤرة مشاكل يعجز حتى أقرب المقربين إليه عن حلها. إنه وسط الظلمة الحالكة، وسط الفقر المدقع، ووسط المشاكل السياسية التي لا تنتهي يضيء بنفسه، تخرج فجأة إمبراطورية من قلب التاريخ لتقول بأن هذا السودان ليس أقل من غيره. هنا توجد إمبراطورية عاشت ونمت على ضفاف النيل، هنا كان الفراعنة السود (نسبة إلى لون البشرة الذي كان ولا يزال يتمتع به السكان) عكس الفراعنة السمر (الأفتح قليلا بلون بشرتهم) سكان مصر القديمة والحالية.

بقيت إمبراطورية مروي مجهولة تماما لقرون طويلة إلى أن قام فريدريك كايو عام 1821 باكتشافها. لكن، ولأسباب غير معروفة بقيت هذه المملكة التي تبعد عن العاصمة الخرطوم مائتي كيلومتر مجهولة تماما خارج السودان، وبعيدة عن اهتمامات غير المختصين بالآثار والحضارات القديمة. حتى ليخال للمرء أنها غير موجودة وأن السودان، الذي نكتشف اليوم عظمة تاريخه، بلد لا يصدر إلينا سوى الأخبار المقلقة. لكن ثلاثة سنوات من العمل المتواصل بين فريق من المنقبين الفرنسيين ومتحف الخرطوم في منطقة مويس وشرم الحسا كشفت عن أكثر من مائتي قطعة يعود تاريخها إلى الفترة الممتدة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي. تعود أغلبيتها للاستعمالات اليومية التي كانت تعتبر من حاجيات أهل مروي وملوكها وحتى البسطاء من الناس فيها. من خلال هذه الأعمال نكتشف أن هذه الإمبراطورية كانت تحمل صفات كوزموبوليتانية، فلم يكن فيها ديانة صريحة وإنما كان إيمان الناس يتم بناء على تأثرهم بالفراعنة المصريين وكذلك بالحضارة الرومانية القديمة، لكن الاكتشافات التي تمت أزاحت الستار عن ميزة خاصة بأهل مروي وهي الطريقة التي كانوا يؤمنون من خلالها بالآخرة أو بالحياة الأبدية التي تلي الموت، ولهذا، ربما، لم يستعملوا التحنيط كوسيلة لحفظ جثث الملوك والكهنة والأغنياء من التجار وما شابه. وإنما كانوا يؤمنون بصعود الأرواح ومفارقتها للجسد بما يمكن أن يعتبر أنهم كانوا يعتقدون بما يمكن تسميته اليوم بذور الديانات التوحيدية الثلاث. هذا الموقع، الذي تم اكتشاف هذه الآثار فيه، يفتتح للمرة الأولى، وهو أمر مثير للاستغراب. فكيف يكون هذا الموقع موجودا طوال هذه القرون، خاصة، القرون التي شهدت أعمال نهب كبيرة للآثار زمن نابليون بونابرت وطوال القرن العشرين، ولم يقربه أحد، لا سارق آثار ولا لص تاريخ ولا حتى فريق منقبين؟ لكن كما يقال: في كل تأخيرة فائدة. وهذه الفائدة اليوم تأتينا من السودان البلد الجميل الذي نرى في الأعمال المعروضة، اليوم في اللوفر، تلك البساطة التي يتسم بها أهله حتى أولئك الذين عاشوا قبل ألفي عام.