فتح ملف «العنف ضد الأطفال» من جديد في لبنان

الخبراء: قانون العقوبات لا يقدم حماية خاصة.. واعتراف الأهل بالأمر من المحرمات

يرى أكثر من اختصاصي نفسي وتربوي أن العنف يسود المجتمعات ويرافق الأطفال الذين يتابعونه عبر وسائل الإعلام.. وحتى في الرسوم المتحركة (أ.ب)
TT

قضية إلقاء القبض على المدعو «ع.ع» (مواليد عام 1970) المطلوب للقضاء بجرم ضرب وإيذاء وتعذيب ابن زوجته البالغ من العمر 6 سنوات، وإصابته بحروق سيجارة في أنحاء جسمه كافة وغيرها من الآثار والكدمات والجروح، وذلك في منزل شقيقته في محلة بشامون (جنوب بيروت)، فتحت ملف العنف من جديد ضد الأطفال في لبنان.

المدعو «ع.ع» لم يعد مجهولا، فقد ذكرت وسائل الإعلام اسم زوجته كاملا، كما ذكرت اسم الطفل الضحية الذي نجا من موت محتم نتيجة التعذيب على يد الموقوف، بعدما قام بربطه في غرفة مع والدته وضربه ضربا مبرحا إلى أن سمع الجيران أنينه وصراخه فأبلغوا فرع المعلومات في طرابلس (شمال لبنان)، فقامت قوة منه بمداهمة المنزل وإنقاذ الطفل ووالدته ونقلتهما إلى المستشفى للعلاج، حيث تبين أن الطفل في حالة حرجة ومصاب بكدمات وحروق، فضلا عن قيام زوج والدته بربط عضوه الذكري الذي تعرض لنزيف حاد.

هذا الإعلان عن هوية الطفل دفع المجلس الأعلى للطفولة في وزارة الشؤون الاجتماعية إلى التنديد بـ«طريقة التعامل الإعلامي مع قضية الطفل المعنف من زوج أمه، لما احتوت عليه من انتهاك صارخ لحق الطفل الضحية في احترام كرامته وحياته الشخصية على نحو ما جاء في المادة (16) من اتفاقية حقوق الطفل التي صدق عليها لبنان في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 1990».

ورأى المجلس في بيان «إن مقابلة الطفل الضحية وإعداد التقرير حوله والطلب منه رواية ما حدث معه، كل ذلك دون إخفاء صورته المرئية وجعل إمكانية التعرف إليه متاحة للجمهور العام، يعرضه إلى العنف مرة ثانية، وبشكل مؤسسي واسع يجعل كرامته الإنسانية المتأصلة فيه مهانة ومنتهكة».

والعنف الممارس ضد الضحية يفتح ملفا خطيرا يواجهه الأطفال في كل مكان، ويستدعي معالجة دقيقة وحازمة، سواء على الصعيد النفسي أو على الصعيد القانوني.

ويقول الخبير الدولي بقضايا الأطفال والرئيس الفخري لجمعية حماية الأحداث في لبنان، القاضي غسان رباح لـ«الشرق الأوسط» إن «قانون العقوبات اللبناني لا يخصص أي مادة تتعلق بمعاقبة من يرتكب جرما عنفيا في حق الطفل، باستثناء العقوبات المنبثقة من القانون الوضعي الذي يطبق على أي جريمة. أكثر من ذلك يعطي القانون الحق لولي الأمر بضرب الطفل لتأديبه من دون التسبب له في أذى أو عاهة. بينما الطفل مخلوق ضعيف ولا قدرة له على تحمل ما قد يتعرض له البالغون. وهو بالتالي يحتاج إلى الحماية بنسبة أكبر. ويجب أن تكون العقوبة أقسى».

ويضيف: «إلا أن الإجراءات التي تتيح حمايته وفق الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، تأخذ طريقها إلى التنفيذ في لبنان، بحيث تتوافر العقوبات لكل من يرتكب عنفا اقتصاديا أو جسديا أو جنسيا أو معنويا ضد الأطفال. لكن هذه الإجراءات ستبقى مرتبطة بقانون العقوبات للدول التي توقع على الاتفاقية، من دون أي تمييز يحمي الأطفال بشكل خاص».

ويشير رباح إلى أن «لا إحصاءات في لبنان عن جرائم العنف ضد الأطفال. هناك حالات تسجل، لكنها لا تشكل ظاهرة اجتماعية تستوجب إعلان حالة طوارئ. والدليل أن أي حادثة تستهدف الأطفال تسبب ضجة إعلامية». كذلك يشير إلى أن «المجتمعات الريفية تشهد عنفا ضد الأطفال أكثر من مجتمع المدينة. فأهل الريف لهم نظرة مختلفة عن أهل المدن تجاه تعاملهم مع أطفالهم».

لكن عدم وجود إحصاءات لا يلغي حساسية طرح الموضوع. وتقول الاختصاصية التربوية سهى هاشم لـ«الشرق الأوسط» إن «قدرا كبيرا من العنف يبقى مستترا. وقد لا يجد الأطفال القدرة على الإبلاغ عن أعمال عنف خوفا من الذين يعنفونهم، في حين أن بعض الأطفال يعتبرون تعرضهم إلى الضرب أو الأذى الذي لا يترك أثرا أمرا عاديا أو عقابا ضروريا جراء أخطاء ارتكبوها. وقد يشعر الطفل الضحية بالخجل أو بالذنب، وغالبا ما يرفض الحديث عن ذلك».

وتضيف: «عندما كنت أعمل مستشارة تربوية في إحدى المدارس، لاحظت أن طفلا يتراجع ويجفل إذا امتدت أي يد إليه. وبعد التدقيق تمكنت من انتزاع اعتراف من الأم بأن هذا الطفل يتعرض إلى الضرب المبرح من والده. وأحيانا إلى التهديد بمسدس إن هو رسب في الامتحان. وعندما بادرت واتصلت بالوالد لأحاول مناقشة المسألة والمساعدة، رفض الوالد الإقرار بأي شيء واعتبر الأمر إهانة له وذنبا يضاف إلى ذنوب زوجته وابنه، ولم يتوان عن نقل الفتى من المدرسة».

وتشير إلى أن «التطرق إلى الموضوع مع الأهل لا يزال من أكبر المحرمات في المجتمع. فالشخص العنيف يرفض تلقي المساعدة أو تغيير سلوكه بسهولة».

ويرى أكثر من اختصاصي نفسي وتربوي أن العنف يسود المجتمعات ويرافق الأطفال الذين يتابعونه عبر وسائل الإعلام. وحتى في الرسوم المتحركة. وتقول نعمت شحرور، وهي أم لطفلين، إنها «تراقب كل ما يشاهده الطفلان. وإذا فوجئت بمشهد عنف تطفئ جهاز التلفزيون فورا».

لكن «تنقية الهواء» للطفل إلى هذا الحد تبدو مبالغة قد لا تحميه أو تجنبه عنف الآخرين. ذلك أن أحد طفلي نعمت تعرض إلى عنف رفاقه في المدرسة أكثر من مرة. ولم يكن يخبر والدته بذلك. والسبب، كما قال الطفل، «أن الأشرار سيضربونه أكثر، كما أنهم سيسخرون منه لعجزه عن حماية نفسه». ولو لم يصب بجرح بليغ جراء الاعتداء عليه لما علمت الوالدة الحريصة بذلك.

تقول هاشم: «لا يستطيع الأهل حماية أولادهم إذا لم يطلعوهم على ما يجري من بشاعة خارج حضنهم». لتضيف: «صحيح أن عنف الأطفال تجاه بعضهم البعض قد يترك آثارا مزعجة على شخصية من يتعرض له ومن يرتكبه. لكن السلبيات محدودة إذا لم يتطور بشكل مأساوي. أما العنف الخطير والمدمر فهو العنف المنزلي. ومثل هذا العنف جذوره تعود إلى عوامل أخرى كالمخدرات والإفراط في تعاطي المشروبات الكحولية، والبطالة والجريمة والإفلات من العقوبة، وثقافات الصمت».

وتؤكد: «هنا يكون للعنف تداعيات خطيرة بالنسبة لنمو الأطفال، وعدا الضرر الجسدي المباشر، فإنه يؤثر أيضا قدرة الأطفال على التعلم أو حتى استعدادهم للذهاب إلى المدرسة على الإطلاق، وقد يؤدي بالأطفال إلى الهروب من البيت، مما يعرضهم إلى مزيد من المخاطر. كما أن العنف يدمر الثقة بالنفس لديهم، والأخطر أنه قد يحولهم إلى أشخاص عنيفين على أولادهم في المستقبل أو يصيبهم بالكآبة ويدفعهم إلى الانتحار».