«الشريط الأخير» و«المهاجران» تفتحان أعين اللبنانيين على تجربة الجيران السوريين

المتفرجون والفنانون على خشبة المسرح أو في قبو ملجأ

مشهد من مسرحية «المهاجران» («الشرق الأوسط»)
TT

بمجرد أن دخلنا صالة العرض لحضور مسرحية «الشريط الأخير» للمخرج أسامة غنم، أخبرنا القيمون على المكان بأن علينا أن نعتلي خشبة المسرح، لا أن نجلس في الأماكن المخصصة للجمهور. وبالفعل صعدنا الدرجات القليلة لنجد أنفسنا على الخشبة، وقد أغلقت خلفنا الستارة الداكنة السوداء، أمامنا مكتب خشبي قديم، اصطفت على يساره علب كرتونية كثيرة، وعلى يمينه آلة تسجيل قديمة من الصنف المنقرض. جلسنا على الكراسي القليلة الموضوعة في مواجهة المكتب، التي خصصت لنا، وعلمنا مباشرة أننا أمام مسرحية لا بد تسعى إلى لحظات حميمة، لذلك ارتأى المخرج أن يكسر المسافة بين المتفرج والممثل، ويضعهما معا في مواجهة بعضهما البعض.

هذا الممثل الذي يأتينا في هيئة مهرج كبير في السن، أنفه صبغ بالأحمر فيما طلي بقية وجهه باللون الأبيض. الظلام يغرق المكان الصغير الذي حشرنا فيه، موسيقى تصدح، ولا بصيص ضوء، حتى يبدأ النور الصغير المعلق فوق المكتب، يعطي وهجا بالكاد ينير بقعة المكتب. العجوز السبعيني هو محور المسرحية، حكاياته، آلامه وذكرياته وقصة حب أجهضها وندم عليها هي التي ستشكل مدار الكلام.

البطل الحقيقي هو الشريط، هكذا يقول لنا المخرج السوري أسامة غنم قبل أن يبدأ العرض في مسرح «دوار الشمس» في بيروت، وعلينا أن نطفئ أجهزتنا الجوالة بالكامل، كي لا نؤثر على جهاز التسجيل الشديد الحساسية وننسف فرصتنا في المشاهدة. بعد دمشق ها هي مسرحية «الشريط الأخير» المقتبسة عن نص «كراب» للعبثي صموئيل بيكيت تعرض في بيروت ضمن «مهرجان الربيع»، والممثل محمد آل رشي يجلس أمامنا، يستمع إلى الموسيقى، ويأكل الموز ببطء شديد، قبل أن يخرج دفترا كبيرا، ويبحث عن رقم لشريط بعينه. يفتش في العلب المكدسة على الطاولة. نكتشف أنها مليئة بأرشيف من التسجيلات. هي إذن يوميات هذا العجوز الذي يريد أن يعود بالذاكرة إلى الوراء، والتفاصيل العتيقة التي لم يعد له في الدنيا غيرها.

«هذا النص يعنيني بشكل شخصي، لأنني قرأته بعد وفاة والدي بأشهر واكتشفت فيه قصة الرجولة في شيخوختها وعزلتها» يقول المخرج وهو يشرح سبب اختياره للنص.

الرجل العجوز في المسرحية لا يتحدث كثيرا، وإنما يهمهم، يبتسم، يضحك، يقطب جبينه، يمسح أنفه بخرقة عتيقة، يتفاعل مع الشريط الذي سجله يوم كان عمره 39 سنة - أي قبل ثلاثين سنة - راويا حكاياته، وأزماته. وعندما يصل إلى أحداث مفصلية يوقف البكرة، ويعيد الاستماع، وتقرأ على وجهه انفعالات وكأنما يسافر في الكلام ليرى المشاهد بأم عينيه. يعرف المتفرج أن قصة تخلي هذا الرجل عن حبيبته ذات يوم، رغم أنه كان قادرا على الاحتفاظ بها، هي اللحظة الحاسمة في الشريط. يغضب الرجل العجوز من ذلك القرار الأخرق، ينهال على آلة التسجيل، ينزع منها البكرة القديمة ويضع بكرة جديدة، ويأخذ يروي ويسجل وجهة نظره في الأحداث نفسها، ولكن بعد ثلاثين سنة، بغضب وانفعال شديدين، وندم كبير. خروج ودخول الرجل المسن إلى غرفة خلفية، حيث لا نعرف تماما ما يفعل، سوى أننا نسمع بعض حرطقات صغيرة، لا يخدم في أكثر من كسر رتابة المشهد، في هذا المكان الضيق الذي نقبع فيه مع العجوز الباحث عن مخارج في الماضي.

عرض تجريبي جريء، هادئ يبدو بسيطا في ظاهره، لكنه مشغول بعناية ودقة كبيرين، إنها مسرحية التفاصيل الصغيرة، التي تجعل من مشاهد كان يمكنها أن تكون قاتلة متعة للتأمل. هذا هو التحدي الذي اشتغل على تخطيه فريق العمل، بالإصرار على الإتقان. «تم احترام نص صموئيل بيكيت من دون تعديلات كبيرة، لأن الرجل ليس تافها، ولا بد أن كل ما كتبه كان يعنيه تماما، ووضعه لخدمة العمل» يقول المخرج أسامة غنم في حوار مع المتفرجين بعد العرض، ويشرح: «في سورية اليوم ثمة لوثة عند المسرحيين بحيث إنهم يختصرون نصوص الكتاب الكبار ويشطبون منها، ويحذفون من الحوارات. نحن كفريق عمل كانت لنا وجهة نظر أخرى». ويتدخل ممثل «الشريط الأخير» محمد آل راشي، الذي أبدع أداء، ليقول إنه انقطع عن التمثيل المسرحي طوال عشر سنوات بسبب رداءة المستوى، إلا أنه عاد بفضل أسامة غنم ومخرج آخر هو سامر عمران، الذي قدم من إخراجه وبمشاركته في التمثيل مسرحية «المهاجران» في بيروت يوم الثلاثاء الماضي، وضمن «مهرجان الربيع» أيضا. وقد نال هذا العرض كما «الشريط الأخير» إعجاب الجمهور اللبناني الذي قليلا ما تتاح له مشاهدة المسرح السوري، رغم قرب المسافة بين البلدين. فالأوضاع السياسية المتشنجة خلال السنوات الخمس الماضية، بين الدولتين، بدت كحاجز ضخم يصعب اختراقه من قبل الفنانين. لكن العرضين اللذين قدما هذه المرة، لا سيما «المهاجران» المقتبسة عن نص الكاتب البولوني سوافومير مروجيك، تدور أحداثها في قبو وصلت مدة عرضها إلى ثلاث ساعات، دون أن يشعر المتفرجون بملل أو كلل، بل اعتبروا أنهم اقتنصوا فرصة لا تعوض، جعلت الحضور يطالب بنقاش بعد المسرحية الثانية لفهم أقرب لماهية عمل هذا الفريق المسرحي القريب جغرافيا والبعيد عمليا. وهو نقاش أجج فضول الحاضرين لمعرفة المزيد عن تجربة جارة، لها خصوصية مسرحية مختلفة ونبض يستحق الاكتشاف.