صورة للصراع بين التقاليد والتحرر المفرط في الهند

بعد رفض المحكمة العليا صفة «الجريمة الجنائية» في موضوع «المعايشة»

يلقي أنصار الزواج التقليدي المحافظ في الهند باللوم على «ليبرالية» السينما والمسلسلات التلفزيونية (أ.ف.ب)
TT

مع إقرار الهند عددا من أوجه الثقافة الغربية، ثمة ظاهرة غير تقليدية بدأت تظهر داخل المجتمع الهندي، ولا سيما في أوساط الشباب، وهي «المعايشة» أو «المساكنة». ومع أن الهند من المجتمعات المحافظة التي ترفض العلاقات الخاصة قبل الزواج وتفضل ترتيب الزيجات على مستوى العائلات، فإن أعدادا من جيل الشباب غير المتزوج يختارون الآن العيش معا، غالبا بصورة سرّية. ويرى بعض المحللين الاجتماعيين أن ظاهرة «المعايشة»، أو «المساكنة»، تتحول بسرعة إلى واحدة من أكبر علامات التحول الاجتماعي والاقتصادي في الهند خلال السنوات الأخيرة. والدليل على ذلك أن معطيات كافيتا جين، من خبراء الشؤون الاجتماعية، التي تشير إلى «المعايشة» زادت بنسبة 60% منذ عام 2004.

المثير أن أعلى المحاكم الهندية شأنا، المحكمة العليا الهندية، عمدت إلى إزالة الوصمة الاجتماعية ومشاعر التحامل ضد هذه الظاهرة، على الأقل من الجانب القانوني. ولكنها عمليا تقبلت هذه الظاهرة بإشارتها إلى أن إقدام رجل وامرأة تربطهما علاقة حب على العيش يعتبر جزءا من الحق في الحياة، وليس «جريمة جنائية»، وبالتالي أكدت الحكومة أنه لا يوجد قانون يحظر هذا النوع من العلاقات.

وفي إطار حكم صادر عن هيئة محكمة خاصة برئاسة القاضي كيه جي بالاكريشنان، وعضوية القاضيين ديباك فيرما وبي إس تشوهان، في إطار دعوى قضائية ضد ممثلة هندية بسبب تعليقاتها حول «المعايشة»، شدد القضاة على أنه «إذا رغب بالغان في العيش معا، فمن باستطاعته معارضتهما؟ وما الجريمة التي يقترفانها بإتيانهما هذا العمل؟ إن هذا يحدث نتيجة التفاعل الثقافي بين الأفراد».

من ناحية أخرى، يعمل كل من نيلو شارما وأنكيت مالهورتا، وكلاهما في العشرينات من العمر، في مجال تكنولوجيا المعلومات ويتشاركان في شقة بضواحي دلهي. كما ينتمي كلاهما إلى مدينة صغيرة في ولاية البنجاب. وكانا قد تعارفها عبر صديق مشترك كان يساعدهما في العثور على شقة مناسبة. وبمرور الوقت، حصل الانجذاب العاطفي وقررا التشارك في المنزل، رغم استمرار جهل أسرة الفتاة نيلو بهذا الأمر.

وعن ذلك، قالت نيلو: «لم أخبر والديّ بأنني أعيش مع رجل. فلو علما لجنّ جنونهما، ولذا أخبرتهما أني أعيش برفقة فتاة». ومن جانبه يقول أنكيت مالهورتا إن ساعات العمل الطويلة الشاقة لا تمكنهما من تمضية أي وقت معا إلا في عطلات نهاية الأسبوع. وأضاف ضاحكا: «في ما عدا العيش معا، لم تتبدل حياتنا كثيرا، فكلانا يمضي ساعات طويلة في العمل، وكلانا يتناول طعامه غالبا خارج البيت، وتنفد أموالنا بنهاية الشهر». ومع هذا لا يبدي الاثنان أي تحمّس للارتباط بزواج، ويؤكدان أنه من المبكر للغاية التفكير بشأن الزواج وأنهما لم يناقشا هذه الفكرة بعد. كما أنهما يدركان تماما حقيقة نظرة المجتمع إلى علاقتهما، ولقد تعرضا بالفعل لمواقف حرجة عندما كان يفد والدا نيلو لزيارتها في دلهي.

من ناحية أخرى، في حين ينحى أنصار الزواج التقليدي المحافظ باللوم على «ليبرالية» السينما والمسلسلات التلفزيونية، فإن بعض المراقبين يقولون إن القصص في الأساطير الهندية القديمة أقرت هذه الممارسة منذ أمد بعيد. وفي هذا الصدد، شرح فاندانا باي، وهو بروفسور علم الاجتماع، أنه «لدى تحليل قصص الحب الأسطورية نجد أن هناك تلميحات واسعة لوجود علاقات قبل الزواج. لقد شاع تعدّد الزوجات والأزواج في إطارنا التاريخي. ونظر المجتمع على نحو إيجابي لأخذ الإله كريشنا الكثير من المحظيات. ومع ذلك ينبغي التنويه بأن معظم القصص الأسطورية تحمل دلالات رمزية وتنطوي على معانٍ وتفاسير أعمق، ولا يجوز أخذها كمؤشرات على نهج سلوك محدد».

بيد أن ثمة سؤالا يطرح نفسه، هو: هل يغيّر هذا القبول القانوني لمثل تلك العلاقات الحقائق الاجتماعية القائمة؟

عنه أجاب كاميني جايسوال، المحامي أمام المحكمة العليا قائلا: «قطعا سينتبه المجتمع المدني إلى هذه الملحوظات. لكن أي قانون لن يتمكن من تغيير السيناريو إلا إذا أفاق المجتمع على التغيير. القانون لن يخلق اختلافا لأنه سيبقى من الضروري تبدل أسلوب التفكير».

أمر آخر له أهمية كبرى هو الأطفال. فالأطفال الذين تثمرهم «المعايشة» يفرضون ضرورة إعادة تفكير الشريكين، وبجدية، في مسار علاقتهما. وفي حالة المضيفة الجوية سوريكها أناند، فإنها مع الطيار بيوش راستوغي لمدة سبع سنوات قبل عقدهما قرانهما. واعترفت سوريكها بالقول: «لم نشعر قط بالحاجة إلى إضفاء طابع قانوني على علاقتنا، لكن بعد ولادة ابننا أقنعنا زملاؤنا في الشركة بضرورة عقد القران. والآن، عندما أعاين كل الإجراءات القانونية المتعلقة باستخراج بطاقة تموينية وإلحاق ابني بمدرسة واستخراج جواز سفر وما إلى غير ذلك، تتولّد لديّ قناعة بأن قرار الزواج كان صائبا. ثم إن الأطفال قد يتصرف بعضهم تجاه بعض بقسوة شديدة، وفعلا خشيت أن يوصم ابني في يوم من الأيام بأنه (ابن غير شرعي) من جانب أقرانه».

في هذه الأثناء، لا تزال المظاهرات ضد قرار المحكمة العليا المتقبل لـ«المعايشة» مستمرة. وقد أعلنت جماعة نسوية نشطة بولاية أوريسا، هي منظمة «سانجيفاني ما غارا»، عزمها محاربة هذا الحكم عبر جمع 100.000 توقيع على الأقل. وقالت الناشطة روتوبورنا موهانتي: «سنرسل التواقيع إلى الرئيسة، التي لكونها امرأة نعتقد أنها ستتخذ الخطوات اللازمة لتصحيح هذا الحكم». ويرى هؤلاء الناشطون أن الحكم من شأنه التشجيع على استغلال العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة. إذ ترى موهانتي إن «علاقات المعايشة لن تخلق سوى مزيد من الأمهات اللائي يعشن من دون زواج. وفي أوريسا حيث يوجد بالفعل قرابة 40.000 أُمّ غير متزوجة، من شأن المعايشة أن تتسبب في ولادة جيش من الأطفال غير الشرعيين».

أيضا أثار حكم المحكمة العليا نقاشات محتدمة عبر شاشات التلفزيون حول تبدل القيم في المجتمع الهندي. وقالت بورنيما أدفاني، المحامية والرئيسة السابقة لـ«المفوضية الوطنية للمرأة» في مداخلة: «إن الزمن يتبدل، وحتى المجتمعات الغربية التي ناصرت في وقت من الأوقات العلاقات الجنسية المتحررة من أي قيود تحولت الآن لتأييد الهياكل الأسرية واحترامها». وشددت على أن «مؤسسة الزواج والأسرة بحاجة إلى نيل التقدير اللائق بأهميتها، ومن الحمق القضاء عليها في الهند بينما تحاول المجتمعات الأخرى تعزيزها. ومن شأن هذه الأحكام والبيانات تشجيع ممارسة المعايشة، التي تتناقض تماما مع ثقافتنا، حيث تشكل الأسرة والوالدان عندنا أهمية محورية».

وعلى مستوى الشارع، شهدت الهند سنويا عددا من الحالات التي تعرّض خلالها أزواج شباب يقضون بعض الوقت معا على الشواطئ أو المتنزهات أو في حانات، وكذلك المحال التي تبيع بطاقات عيد الحب والهدايا الخاصة به. كما هاجمت بعض الجماعات المسيحية المحافظة نمط الحياة الجديد الناشئ عن العمل لساعات متأخرة في مراكز الاتصال. كما سجّلت في الفترة الأخيرة تزايدا في حوادث «جرائم الشرف» في المناطق الحضرية، حيث يتعرض أزواج للقتل لرفض أسرة أحدهما ارتباطهما.

ولكن قبالة المعارضة الشديدة تبقى حقيقة خطيرة وهي أن ثلثي عدد سكان الهند الذي يتجاوز مليار نسمة تقل أعمارهم عن 35 سنة، وبدأ كثيرون من هؤلاء ينزحون عن الأرياف والمدن الصغيرة والتدفق على الحواضر المزدهرة بهدف العمل. ويعتقد محللون أن هذا التحول الديموغرافي يسهم إسهاما كبيرا في التغيرات في التوجهات الاجتماعية. إذ يشعر هؤلاء الشباب بأنهم أحرار، ليس فقط في اختيار نمط حياتهم المهنية وكيف ينفقون أموالهم، وإنما أيضا في اختيار من يحبون ومن يتزوجون.

ويوضح سانتوش ديساي، المعلق على القضايا الاجتماعية والصحافي المهتم بتطلعات ومخاوف الطبقة الوسطى الحضرية الهندية، هذه الناحية بقوله: «لقد خلفوا وراء ظهورهم جذورهم وعائلاتهم. ولم تعد القواعد القديمة بالنسبة إليهم قابلة للتطبيق على بيئاتهم الجديدة. وهنا في المدن يطّلعون على مهن جديدة ويتمتعون بالاستقلال المادي ويزيد معدل التفاعل بين الرجال والنساء، ويعمل الجميع لساعات متأخرة وتظهر صور جديدة للعلاقات».

وخلال السنوات الأخيرة باتت ثقافة «المشاهير» تعجّ بعلاقات خارج إطار الزواج، حيث تجري الإشارة بشكل مهذب إلى الطرف الآخر كـ«رفيق» أو «صديق قديم» أو «شريك»، إلى غير ذلك. ومن بين الأمثلة على ذلك الوزير السابق جورج فيرنانديز وزميلته وصديقته المقربة جايا جيتلي، والشاعر دوم مورايس والكاتبة سارايا سريفاتسا، والممثل البنغالي الراحل أوتام كومار وصديقته سوبريا، وبطلا الأفلام الدرامية المؤثرة في سبعينات القرن الماضي راجيش خانا وتينا مونيم. لكن هذا هو الجيل الماضي، أما الحالات في الجيل الراهن من «نجوم بوليوود» فوفيرة، مثل سيف علي خان وكارين كابور، وجون إبراهيم وبيباشا باسو، وسوشميتا سين (ملكة جمال الكون سابقا) وصديقها. أضف إلى ذلك أن كثرة من الأفلام الهندية تناولت علاقات «المعايشة»، وأبرزت هذا النمط من العلاقات بين الشباب المستعدين للمخاطرة بتحدي الأعراف الاجتماعية.