تاكسي القاهرة يربك الزبائن بزيه الأبيض الجديد

نفض عن كاهله ثوبه القديم بعد صراع بين 3 ألوان

صراع الأبيض والأسود يربك زبائن تاكسي القاهرة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«يا تاكسي الغرام يا مقرب البعيد.. بتسابق الحمام والسكة الحديد.. لا لك جناحين ولا موتورين.. يا تاكسي الغرام.. يا برنس موقفك يا حليوة في مظهرك، الكل استلطفك والكل استنظرك.. الناس بتعرفك.. يا تاكسي الغرام.. بتشاور من بعيد.. يا تاكسي الغرام». كلمات ألفها أبو السعود الإبياري وغناها عبد العزيز محمود وهدى سلطان عام 1954 في استعراض غنائي راقص عن تاكسي القاهرة ذي اللونين الأبيض والأسود الشهيرين، ولكن دوام الحال من المحال، فالتاكسي الذي تعرفه الناس وتشاور له من بعيد، كما تقول الأغنية، أوشك على الانقراض، ليحل محله تاكسي جديد أبيض اللون، الأمر الذي أثار ارتباكا في الشوارع القاهرية لدى الكثير من الناس.

ففي مطار القاهرة بدا المشهد غريبا بالنسبة لحسن إبراهيم، وهو مصري يقيم في لندن منذ سنوات، وعاد مؤخرا إلى القاهرة في إجازة بعد انقطاع عن العاصمة المصرية دام 3 سنوات ونصف السنة، فعندما خرج من المطار حاملا حقائبه، وصاح مناديا «تاكسي» توقفت أمامه 3 سيارات تحمل كل منها لونا مختلفا، الأولى تحمل اللونين الأبيض والأسود اللذين يشتهر بهما تاكسي القاهرة، والثانية صفراء، والثالثة بيضاء، تطل من أعلى كل منها لافتة تحمل كلمة «تاكسي»، ورغم دهشته، فإن حسن اتجه إلى السيارة البيضاء لأنها الأحدث طرازا ومزودة بتكييف يقيه من حرارة صيف القاهرة.

التصرف الذي فعله حسن، يفعله يوميا آلاف المصريين من مستقلي التاكسي في القاهرة، الذين بدأوا في هجر التاكسي الشهير ذي اللونين الأبيض والأسود ليتجهوا إلى التاكسي ذي الحلة البيضاء الجديدة الذي دشنته وزارة المالية المصرية قبل عام ونصف العام في إطار مشروع إحلال وتجديد تاكسي القاهرة، بعدما عزف الناس عن ركوب تاكسي العاصمة ذي اللون الأصفر، الذي بدأ العمل قبل 3 سنوات، لارتفاع سعره.

ورغم أن بعض المدن تشتهر بلون التاكسي بها، الذي يعد من ثوابت الشوارع مثل التاكسي الأصفر في نيويورك والأسود في لندن، فإن القاهرة تنفرد بتلك الظاهرة الفريدة، فتعدد ألوان التاكسي خلق حالة من الفوضى في الشوارع، وتسبب في ارتباك للركاب، خاصة من غير سكان القاهرة.

وكعادتهم لم تسلم هذه الفوضى من مزاح المصريين فـ«التاكسي الأبيض ينفع في اليوم الأسود» أو «من فات قديمه تاه».. لافتة صغيرة علقها أحدهم على سيارته القديمة كنوع من التشفي في التاكسي الجديد، أو «أبيض وأسود زي أفلام زمان»، في إشارة إلى عراقة تاكسي القاهرة الذي يعود بلونيه إلى عشرينات القرن الماضي، وهي السمة التي لم يلتفت إليها مشروع تجديد التاكسي وعمد إلى تغيير لونه إلى الأبيض فقط.

«كل حاجة اتغيرت اشمعنى لون التاكسي اللي مش هايتغير.. عالم ألوان وما فيش حاجة هتفضل على حالها»، بهذه الكلمات التي تحمل الكثير من الأسى عبر عبد الحميد عواد (60 عاما) عن رأيه في وجود 3 ألوان للسيارات التاكسي في شوارع القاهرة.

عواد يعمل سائقا للتاكسي منذ 35 عاما لم يعرف لنفسه مهنة أخرى، يستيقظ كل يوم لأداء صلاة الفجر وبعدها ينظف سيارته ذات اللونين الأبيض والأسود بدقة، يحنو عليها كأحد أبنائه الأربعة، قبل أن يتوكل على الله ليبدأ يومه في شوارع واحدة من أكثر المدن ازدحاما.

ويضيف عواد «الطلب على التاكسي الأبيض والأسود قلّ بعد التاكسي الأبيض الجديد، الناس بتقول أنا أركب في تاكسي له تسعيرة واضحة، بس دا مش ذنبي إن الحكومة مش مهتمة بينا».

وتبلغ تعريفة الركوب في التاكسي الجديد ذي اللون الأبيض، 2.5 جنيه للكيلومتر الأول (الدولار يساوي 5.5 جنيه)، ثم 1.25 جنيه لكل كيلومتر بعد ذلك، ويتميز بوجود عداد إلكتروني يقدر القيمة ويحسب المسافة دون أي تدخل من السائق، في حين لا يطبق سائقو التاكسي الأبيض والأسود تعريفة الركوب المقررة، نظرا لتدنيها حيث تبلغ 60 قرشا للكيلومتر الأول (الجنيه يساوي 100 قرش) ثم 25 قرشا لكل كيلومتر بعد ذلك.

ويقول عواد «عادة ما أترك تقدير قيمة التوصيل للركاب، بعضهم يعطيني حقي وزيادة، وبعضهم يرفض دفع القيمة المناسبة، والسبب في كل ذلك عدم تشغيل عداد التاكسي لأن تعريفته 60 قرشا فقط، أي إن السعر خارج نطاق الزمن الذي نعيشه».

عواد سيارته مضى على تاريخ صنعها 19 عاما، والعام المقبل سيضطر إلى تغييرها بأخرى جديدة، ليواصل عمله، إلا أنه يصف تلك الخطوة قائلا «اشتريت سيارتي عام 1991 بمبلغ 12 ألف جنيه بالتقسيط، وأعمل عليها منذ ذلك الوقت وأشعر أنها ابنتي إلى جوار أبنائي الأربعة، وعندما أفكر في لحظة استغنائي عنها أشعر بألم شديد».

أما جمال السيد (40 عاما) وهو سائق لسيارة تاكسي منذ نحو 15 عاما، فنفث دخان سيجارته وهو يقول حانقا «مشروع التاكسي الجديد ضيّق علينا أبواب الرزق، وخلق منافسين جددا.. مش كفاية مترو الأنفاق الذي يسحب الزبائن منا؟».

ويضيف: «قبل عامين كنت أمضي في شوارع القاهرة وأختار بين الزبائن حسب طول أو قصر المسافة التي يرغب في قطعها، أما الآن فكثيرا ما أمر على زبائن ينتظرون سيارة تاكسي، وأقترب منهم لأعرض عليهم خدماتي، إلا أنهم يرفضون مفضلين انتظار التاكسي الأبيض».

وطالب جمال بتعديل تعريفة الركوب في التاكسي الأبيض والأسود لتتساوى مع التاكسي الجديد الأبيض «ويُترك الاختيار للزبون».أما علي طه، وهو سائق اشترك في المشروع الجديد، وتخلى عن سيارته ذات اللونين الأبيض والأسود ليقود أخرى حديثة بيضاء، فيرى أن التاكسي الجديد أفضل من كل الوجوه لأن السيارة القديمة كانت كثيرة الأعطال وتكلفة إصلاحها عالية.

ويقول «كنت كثيرا ما أذهب إلى الميكانيكي لإصلاح السيارة مما يعني التوقف عن العمل، وأنا أعمل سائق تاكسي فقط وليس لدي مهنة أخرى، أي إن يوما بلا عمل يعني يوما بلا نقود»، مشيرا إلى أن سيارته الجديدة لا تكلفه سوى نقود الوقود والأقساط المطلوبة، وقال «اللون مش مشكلة».

وعن مشكلات التاكسي الجديد يقول طه «المشكلة الوحيدة كانت تخوف الناس في البداية من الركوب معي، خوفا من ارتفاع أجرة التوصيل، ولكن مع الوقت زال هذا الخوف تدريجيا».

وينص مشروع التاكسي الجديد الذي دشنته وزارة المالية المصرية قبل عام ونصف العام بالتعاون مع وزارات البيئة والداخلية والتنمية المحلية على وقف ترخيص أي سيارة تاكسي مضى على تاريخ صنعها أكثر من 20 عاما، ليصبح سائقها أما خيارين، إما أن يحولها إلى سيارة خاصة، أو أن يحيلها للتقاعد ويحولها إلى خردة، ويشتري سيارة جديدة في إطار مشروع وزارة المالية، الذي بلغ عدد المشتركين في مرحلته الأولى 30 ألف سائق، و15 ألفا في المرحلة الثانية الجاري تنفيذها حاليا، فيما أشارت تقديرات الحكومة المصرية العام الماضي إلى وجود 57 ألف سيارة تاكسي تسير في شوارع القاهرة ومضى على تاريخ صنعها أكثر من 20 عاما ويجب استبدالها فورا لما تسببه عوادمها من تلوث للبيئة بالإضافة إلى رغبة الحكومة في انسياب حركة المرور بالشوارع‏ والارتقاء بمستوى الخدمة المقدمة‏ للركاب.‏ وتتحمل وزارة المالية مبلغ ‏5‏ آلاف جنيه مقابل السيارة القديمة، وتتحمل سداد ضريبة المبيعات‏،‏ بالإضافة إلى معاملة القرض الذي يحصل عليه السائق لشراء السيارة الجديدة، التي توفرها 5 شركات (مصرية وكوريتان وصينية وفرنسية) بفائدة مخفضة‏، والتعاقد مع شركة دعاية وإعلان للحصول على حق الإعلان على السيارة بما يوازي نصف قيمة القسط الشهري، الذي يبدأ من 550 جنيها (نحو 100 دولار) و1500 جنيه (نحو 270 دولارا).

«أصبحت أنتظر التاكسي الجديد حتى لو كلفني الأمر مزيدا من الوقت»، هكذا بدأ أشرف سيد وهو محاسب في أحد البنوك بوسط القاهرة حديثه، مضيفا «أنا أقطن في حي الهرم وعملي في وسط القاهرة، ونظرا لعدم العمل بالعداد في التاكسي القديم كنت لا أستقله ولكن مع ظهور التاكسي الجديد أصبح هناك أساس واضح للأجرة وبالتالي أصبحت أعتمد عليه». ويعدد أشرف مزايا التاكسي الجديد قائلا «السيارة نظيفة وجديدة ومكيفة والأجرة واضحة ويمكن أن تحصل على إيصال بما دفعته، ولا يمكن للسائق أن يركب زبونا آخر معك فيوصله قبلك فتتعطل أو تتشاجر معه».

لكن عزاء تاكسي القاهرة الأبيض والأسود أنه دخل في نسيج الدراما الفنية فظهر في شكل استعراض غنائي في أفلام: «تاكسي الغرام»، بطولة عبد العزيز محمود وهدى سلطان عام 1954، وفي «الشقة من حق الزوجة» بطولة معالي زايد ومحمود عبد العزيز عام 1985، و«عايز حقي» بطولة هند صبري وهاني رمزي عام 2003، و«على جنب يا أسطى» بطولة أشرف عبد الباقي وروجينا عام 2008، كما تقاسم مع نور الشريف ولبلبلة بطولة فيلم «ليلة ساخنة» للمخرج عاطف الطيب.. وروائيا أطل التاكسي من نافذة كتاب «تاكسي.. حواديت المشاوير» للكاتب خالد الخميسي، الذي يروي فيه مواقف حقيقية وقعت له خلال ركوبه سيارات التاكسي مع السائقين، ويستعرض من خلالها عالم تلك الفئة من المجتمع، وما ينطوي عليه من مفارقات اجتماعية وإنسانية.