«حلواني تريانون».. كعكة يونانية بالإسكندرية عمرها 120 عاما

كتب نجيب محفوظ فيه بعض سيناريوهات أفلامه.. وذكره توفيق الحكيم في سيرته الذاتية (سجن العمر)

صورة لـ«تريانون» وصورة تذكارية لسوزان مبارك مع العاملين بالمطعم («الشرق الأوسط»)
TT

على بعد خطوات منه سيجذبك مذاق يجمع بين الفخامة والأصالة، وحين تدخل ستندهش من أصناف حلوى الشوكولاته الشرقية والغربية وأنت تتذوقها على أنغام موسيقى رومانسية هادئة. في وسط الإسكندرية في شارع سعد زغلول، وأشهر ميادينها ميدان محطة الرمل، يطل مطعم وحلواني «تريانون» ببهائه المميز على ناصية ثلاثة شوارع رئيسية، بمظلاته البيضاء التي كتب عليها باللون الأحمر اسم المطعم الذي أصبح علامة مميزة في قلب الميدان العريق.

عالم «تريانون» يصيبك بالدهشة ويخلب الحواس، فالتصميم الأخاذ والديكورات البديعة التي تجمع بين الرونق الأوروبي ونقوش الخشب الشرقية والرسوم الرائعة لجوار شرقيات بريشة فنان إيطالي لا تزال محتفظة بألوانها الزاهية، والتي تخلق أجواء لا مثيل لها.

«الشرق الأوسط» التقت أقدم العاملين بـ« تريانون» المتر إمام، الذي روى لنا حكاية «تريانون»، قائلا: «تريانون يوناني الأصل وتاريخه يعود لنحو 120 عاما، وقد اشتراه اليوناني يورغوس بيرليس مؤسس حلواني (بيتيت تريانون)، بعد ذلك اشتراه (جراند تريانو) مع عائلة قسطنطينيدس وأندريا دريكوس، وبدأوا في التوسع وفي السبعينات انفصل بيتيت وجراند تريانون، وتم تمصيره عام 1970، واشتراه مجموعة شركاء وهم: عائلة الحضري وجورج لوكا وسمير بولس». وأضاف: «أعمل هنا منذ عام 1981، وأتذكر بعض اليونانيين الذين كانوا يعملون بالمطعم كان أشهرهم اسمه كوستا وكان مسؤولا في المخازن، وياني في قسم الحلواني، والمتر ستاورو، وأليكو كان كاشيرا وهم من تعاملت معهم، وكنا نشرف على حفلات كثيرة مع رئيس الجالية اليونانية السابق بافيادس، وهو من أهم زبائن المحل».

يتابع إمام: «بمرور الوقت توسع تريانون وأصبح أشهر سلسلة مطاعم وحلويات في الإسكندرية والقاهرة، وامتدت فروعه من محطة الرمل وحتى العجمي ليقدم أكلات من المطبخ الفرنسي والإيطالي والصيني إلى جانب المأكولات الشرقية. وقد اشتهر تريانون بين كبريات العائلات بتقديمهم خدمات تجهيز الحفلات داخل وخارج الإسكندرية». شهرة تريانون ساهم فيها زبائنه أيضا، فقد كتب الأديب العالمي نجيب محفوظ فيه بعض سيناريوهات أفلامه، كما كان توفيق الحكيم من عشاقه وذكره في واحدة من أجمل السير الذاتية في الأدب العربي (سجن العمر)، كذلك كان من رواده الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر الراحل أمل دنقل.

ويحتفظ تريانون بتوقيعات رواده في عدد من المجلدات الأنيقة الخاصة بالزيارات وقادني الفضول للتعرف عليهم واستشراف ماضي المطعم العريق، فكان أهمهم: الملكة صوفيا ملكة إسبانيا ذات الأصل اليوناني، والأمير تركي بن عبد العزيز، والسيدة جيهان السادات، وفؤاد سراج الدين، والسير مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل وصفوت الشريف والمشير الجمصي وزير الدفاع إبان حرب 73، والأميرة فوزية والملكة ناريمان وأدهم النقيب زوج الملكة ناريمان. وكذلك كثير من الشخصيات البارزة والوزراء ونجوم السينما والتلفزيون، ومنهم: الفنان محمد أحمد المصري (أبو لمعة)، والفنانة يسرا وليلى علوي ولبلبة وأحمد زكي ومحمود مرسي وعباس فارس والفنان حمدي غيث الذي كتب: «لأول مرة أرتاد مطعم تريانون وسعدت بوجود هذا المستوى الرائع من الجمال بما لا يقل عن أعظم مستوى أوروبي».

بينما كتب كوستانتينو، وزير الداخلية اليوناني جملة معبرة عن سر عشق تريانون «دفء تريانون نابع من دفء الإسكندرانيين، وهذه الأجواء تعيدني بشدة إلى إسكندريتي الكوزموبوليتانية». ومن التوقيعات الطريفة توقيع إحدى الزبونات الإنجليزيات التي وقعت باسم الملكة إليزابيث في دعابة منها.

استقرت عيناي على البيانو العتيق بمظهره الآسر الذي يحتل ركنا يسيطر على قاعة الطعام بأكملها، تركني المتر إمام لأمارس هوايتي في العزف على أصابع ذلك البيانو الفرنسي الذي يعود إلى عام 1911، وأعيش تجربة ربما عاشها الكثيرون من رواد المطعم، وقال إمام مبتسما: «ابنه الرئيس السادات أيضا كانت تعشق العزف عليه كلما تناولت غداءها هنا».

قاعة الطعام تم إعادة تصميم ديكوراتها في عام 1987، لكن باقي جدران المطعم لا تزال محتفظة برونقها منذ 120 عاما، ويفخر إمام الذي يصطحب زبائنه في جولة ساحرة بين دهاليز تريانون، لافتا إلى أن كل قطعة أثاث في المطعم تعتبر من الأنتيكات الثمينة. أما القسم الثاني من تريانون فهو قسم الحلواني وهو يعج بأنواع الشوكولاته والحلويات ذات الأغلفة البراقة. ويتباهى المتر إمام - المعروف بوجاهته - بصورته التذكارية مع سيدة مصر الأولى السيدة سوزان مبارك، ومعه بعض من العاملين في تريانون، حيث قدموا خدماتهم في أكثر من مناسبة رسمية.

يعلو المطعم فندق «متروبول» العريق، وكان قبل ذلك مبنى وزارة الري، التي كان يعمل بها الشاعر اليوناني الشهير كفافيس، لكن المتر إمام ليس على يقين تام من أن كفافيس كان أحد رواد المكان لكنه يذكر جيدا الأديب اليوناني موسكوف الذي كان يعشق الكتابة في أحضان تريانون، بل إن أحد المواقف الطريفة التي لم ينسها إمام، حينما كتب موسكوف شيكا باليونانية لسداد ثمن غدائه في المطعم ونسي أن يكتب المبلغ، وسافر إلى القاهرة، فصعد المحاسب لصاحب فندق «متروبول»، يسأل عن عنوانه وهاتفه بالقاهرة، وكلمه أحد العاملين بـ«تريانون» في ذلك الوقت باليونانية، حيث كان جميع العاملين يتحدثون اليونانية بطلاقة، وجاء من القاهرة مخصوصا لكي يتحدث إليه ويعرف منه كيف كان يتحدث اليونانية بهذا الشكل! ونظرا لأصله اليوناني، يعتبر تريانون قبلة اليونانيين في الإسكندرية حيث تتوافد عليه أفواج من اليونانيين المصريين الذين ارتبطوا بذكريات في الإسكندرية ويقومون بالتقاط صور تذكارية بالمكان، ويقول إمام: «لي صديقة يونانية تأتي سنويا لزيارة الإسكندرية مع زوجها وهي تدعوني باستمرار لزيارة اليونان ومطعم الأسماك الذي تملكه، وبيننا علاقة إنسانية جميلة، وتتناول غداءها هنا يوميا». ويضيف المتر: «اليونانيون يحبون أصناف معينة عندنا ومنها: جبنة ريكوتا بالعسل وبلح الشوكولاته، والسلطة اليوناني (سيزار سالاد)، وأومليت بالبقدونس».

وأيضا تريانون اختيار عشاق الطعام الفرنسي، فهو يقدم الكوكتيلات وأصناف المأكولات البحرية، بل ابتكر صنفا جديدا وهو تقديم الجمبري بالكنافة والذي يقدم مع صوص حار، هذا فضلا عن الميكس غريل، والدجاج على الطريقة الصينية، والنودلز، هذا إلى جانب الشركسية أو الأوزي.

يبدأ تريانون في العمل من السابعة صباحا وحتى الواحدة صباحا، ولديه 5 فروع إلا أن أعرقها محل محطة الرمل، ويؤكد إمام: «أهم ما يميز تريانون هو احتفاظه بطابعه الكلاسيكي وتقديم منتجات جيدة وخدمة عالية المستوى، مما جعلنا محل ثقة للإشراف وإعداد المأكولات والمشروبات في حفل افتتاح مكتبة الإسكندرية مع ملوك وأمراء ورؤساء العالم». ويضيف: «عمري مع تريانون 30 سنة خدمت فيها ملك وملكة النرويج وولية العهد السويدية، والوزراء المصريين وأقمنا حلويات لكل مناسبات المراكز الثقافية الأجنبية.. وزمان إسكندرية لم يكن بها سوى تريانون وديليس وأثينيوس». ويؤكد إمام مكانه تريانون بين الوجهات السياحية في الإسكندرية إلا أنه يرى بوضوح انخفاض النشاط السياحي في المدينة، معللا ذلك بالظروف العالمية وعدم الاستقرار الاقتصادي.

ويحتضن «تريانون» اجتماعات ولقاءات نادي روتاري كوزموبوليتان، ومتروبوليتان، وصن رايز، وسيدات الروتاري. أما رواد المكان فمن جميع الجنسيات لذا يسعى لتلبيه كافة رغباتهم من جميع الأصناف والمأكولات. ويروي إمام مواقف طريفة صادفها مع الزبائن: «مرة في المساء جاءني مصري يعيش في ألمانيا منذ 24 سنة ونفسه يأكل فلفلا مقليا وباذنجانا بالخل والثوم وملوخية، وعملت له ملوخية بالأرانب والسلطة البلدي وكان في قمة السعادة ومنذ ذلك اليوم وهو يأتي من المطار على تريانون».