هل بدأ زمن «خطف اللوحات» للحصول على فدية باهظة أو الإفراج عن سجناء؟

كيف هبط الرقم من نصف مليار يورو إلى 100 مليون في سرقة متحف باريس للفن الحديث؟

رجال الأمن يعاينون أطر اللوحات التي تركها اللصوص (إ.ب.أ)
TT

في غضون ساعات قلائل، تراجعت جهات فنية فرنسية عن تقديراتها الأولية لخسائر أكبر سرقة يتعرض لها متحف الفن الحديث في باريس، ليهبط الرقم من 500 مليون يورو إلى 100 مليون فحسب. وجاء الرقم الجديد مثيرا للتساؤلات، خصوصا أن اللوحات الخمس التي سطا عليها لص ملثم ليلة أول من أمس تعود لخمسة من كبار فناني العصر، ومن بينها لوحة رائعة من المدرسة التكعيبية للإسباني بيكاسو تساوي وحدها أكثر من المبلغ الثاني المقدر.

وبدا واضحا أن التقليل من حجم السرقة جاء بعد تدخل جهات أمنية وتأمينية، ذلك أن اللوحات المسروقة تتمتع بشهرة يجعل من المتعذر بيعها في المزادات العالمية، الأمر الذي دفع خبراء إلى التصريح لوسائل الإعلام عن اعتقادهم بأن وراء العملية عصابة تنوي مفاوضة شركات التأمين على «فدية» طائلة مقابل إعادة اللوحات. فمن المعروف أن المتاحف وكبرى المعارض الفنية تؤمن على موجوداتها بمبالغ تخضع للتعديل حسب أسعار السوق. لذلك فإن في مقدور اللصوص الذين أدركوا مبلغ التقديرات الأولية بنصف مليار يورو الاتصال بالجهة التي أخذت على عاتقها تأمين ممتلكات المتحف الوطني للفن الحديث في باريس، والمطالبة بنصف هذا الرقم لإعادة المسروقات. ورغم حداثة هذه العمليات، فإنها في تزايد وتشبه في خطواتها عمليات خطف أبناء الأثرياء للمطالبة بفدية مالية. ولهذا يطلق العاملون في الأجهزة الأمنية عليها اسم «عمليات خطف الفنون». ولا يستبعد المحققون أن تقوم جهات معينة بخطف أعمال ثمينة أو آثار لا تقدر بثمن بهدف استخدامها في الضغط والابتزاز السياسي للدول والحكومات، للمطالبة بالإفراج عن معتقلين أو سجناء خطرين.

لكن المؤشرات الأولية لعملية السطو دلت على أن من قام بها كان يعرف تمام المعرفة مكان وجود كل لوحة، عدا أنه كان مسلحا بالأدوات التي سمحت له بنزع إطاراتها باحتراس واحتراف. ورجحت مصادر كثيرة أن السارق ليس من الهواة بل تم تدبير العملية على يد عصابة محترفة وبعد تلقي معلومات من داخل المتحف طمأنت اللصوص بأن جهاز الإنذار معطل منذ فترة. وبالتأكيد، فإن عصابة من هذا النوع تمتلك معلومات عن القيمة الفعلية لكل قطعة، بالقياس مع الأرقام التي تعلنها المزادات العالمية ومجلات تجار الأعمال الفنية.

ففي الخامس من الشهر الحالي، رسا مزاد نظمته شركة «كريستيز» في نيويورك للوحة لبيكاسو على مشتر دفع 105.5 مليون دولار، أي قرابة 82 مليون يورو. وكان الخبراء قد قدروا سعر اللوحة المرسومة عام 1932 بمبلغ يتراوح بين 50 و70 مليون يورو. كما كانت لوحة «الصبي ذو الغليون» للرسام نفسه قد بيعت بأكثر من 80 مليون يورو عام 2004، مما يعني أن سوق الأعمال الفنية تعيش ازدهارا ملحوظا وهي لم تتأثر كثيرا بالأزمة العالمية. وكانت منحوتة «الرجل السائر» للسويسري ألبرتو جياكوميتي قد بيعت في فبراير (شباط) الماضي بمبلغ 104.3 مليون دولار، أي أكثر من 80 مليون يورو، أيضا. وفي خريف 2006 بيعت لوحة للأميركي جاكسون بولوك، في صفقة خاصة، بمبلغ 140 مليون دولار، أي بأكثر من 108 ملايين يورو. لكن من المؤكد أن لوحات من هذا الوزن في حال بيعت في الأسواق الموازية، أي غير الشرعية، فإنها لن تحصد سوى 20 في المائة من قيمتها الحقيقية.

وللحد من السرقات، ينشط جهاز مركزي فرنسي، جرى إنشاؤه عام 1975، ضد الاتجار في الممتلكات الفنية. ويمتلك الجهاز قاعدة من البيانات تدعى «تريما»، تمت تغذيتها بأكثر من 80 ألف صورة لأعمال فنية اختفت عن الأنظار. وبالإضافة إلى هذا الجهاز، فتحت الشرطة الدولية (الإنتربول)، في الصيف الماضي، مجموعتها من صور الآثار والمنحوتات واللوحات المسروقة لتكون تحت تصرف عموم الناس. وهي مجموعة تضم 34 ألف قطعة نهبت من 115 دولة. ويرى الخبراء العاملون في مثل هذه الأجهزة أن أمام لصوص الأعمال المسروقة ذات القيمة ثلاث وسائل لتصريفها، الأولى هي طرحها في السوق «الرمادية» أي الموازية للسوق السوداء، أو بيعها إلى أشخاص أوصوا عليها ومولوا عملية السطو، أو حرقها وتدميرها خشية القبض عليهم متلبسين بالسرقة. عدا هذه الوسائل، يؤكد المحققون وجود هواة من أصحاب الثروات الطائلة مستعدين لدفع عشرات الملايين في سبيل الحصول على لوحة شهيرة لرسام عالمي وتعليقها في حجرة مغلقة داخل قصورهم أو الشعور بمتعة معينة عند حجبها عن الأنظار وإيداعها ملفوفة داخل أسطوانة صلبة في خزانة أحد المصارف.

وتشير التجارب إلى وجود مافيات متخصصة في تجارة اللوحات المعروضة في أدلة المتاحف والمعارض الكبرى، ويستخدم المال المدفوع فيها في تبييض أموال المخدرات. كما يمكن مقايضتها وابتزاز شركات التأمين بها. وهناك من يلجأ إلى مواقع البيع الإلكترونية لتصريف أعمال مسروقة، خصوصا في حالة اللوحات غير المعروفة وذات المصدر المجهول. ونظرا لاتساع رقعة هذه المواقع ودخول زبائن من مختلف بقاع العالم إليها، تراقب الأجهزة الأمنية الأوروبية حركة بيع الأعمال الفنية في دول شرق آسيا وفي أسواق الخليج التي تشهد طلبات حثيثة لاقتناء اللوحات والمنحوتات التزيينية. وبفضل هذه المتابعة تمت استعادة لوحتين لبيكاسو سرقتا في باريس، قبل ثلاث سنوات، بينما كانتا في طريقهما للبيع.