«الأرض والفصول» كما يراها الإيرانيون «للكبار فقط»

زهرة صبري تحرك الدمى والإحساس بالغرابة في العاصمة اللبنانية

إحدى الممثلات في عرض «الأرض والفصول» تجعل من القناع وهي تلبسه بيديها شخصية مسرحية
TT

جاء المتفرجون إلى مسرح «دوار الشمس» في بيروت هذه المرة يحملهم فضولهم لاكتشاف عمل مسرحي إيراني نادرا ما تتاح الفرصة لرؤية مثيل له في العاصمة اللبنانية. فالإعلان هو عن «مسرح دمى» للكبار وليس للصغار، والحكاية مستلهمة من نصوص الصوفي الأشهر جلال الدين الرومي. أما عن اللغة فقد قيل لنا إن الفارسية لن تكون عائقا، والعرض يشرح نفسه بنفسه.

وتسهيلا للفهم، وزعت علينا عند دخول الصالة ورقة باللغة العربية، فيها سبعة مقاطع قصيرة من كتاب «المثنوي المعنوي» استوحت منها الإيرانية زهرة صبري المشاهد التي ستتوالى أمامنا طوال 50 دقيقة.

ثلاث فتيات يجلسن على أرضية الخشبة بملابسهن البيضاء الفضفاضة الواسعة التي تشبه ملابس الدراويش.

«في البدء هبطت حقيقة الحياة من السماء مثل مرآة مكسورة، كل جزء منها أظهر جزءا من هذه الحقيقة». عندما تتحرك الفتيات، مستلهمات هذه العبارة الصوفية نتبين أنهن أشبه بدمى غطيت وجوهها بالأبيض، لتتناسب ونصاعة الأثواب، ولفت رؤوسهن بأغطية بيضاء. وعلى وقع موسيقى شرقية تأملية، وبحركات وئيدة نلمح كرة سوداء تتحرك وكأنها ركّبت على جسد وحلّت مكان الرأس، لكن سرعان ما يلتمع السواد ليتحول إلى مرآة مكسّرة أجزاؤها، تتوهج تحت الإضاءة المركزة.

يكتشف المتفرج مع توالي المشاهد، لغة فنية خاصة، الفتيات يجسدن الحكايات بقاماتهن الملتفة بالأثواب الناصعة، بمعونة دمى صغيرة الحجم نسبيا. فها هي بقرة ترعى في جزيرة باحثة عن رزقها. البقرة دمية تحركها إحدى المؤديات، والمرعى ليس سوى أقمشة خضراء تتحرك وتتماوج ببطء، ثم يتغير لونها لندرك أنه ما إن ينضب الخير، حتى يبعث الله برزق آخر. الأقمشة باختلاف أحجامها وألوانها، من صغيرة صنعت منها الدمى والشخصيات، إلى كبيرة بحجم المسرح طولا وعرضا، هي واحدة من أهم الأدوات التي تستخدمها صبري، لتصنع تشكيلاتها، وترسم الصور، وتجعل من النصوص الروحانية حكايات مرئية متعة للناظر.

لعل واحدة من أجمل الحكايات تجسيدا هي قصة النبي موسى. حيث نرى والدته وكأنها تسبح في البحر، بينما تحول رداؤها إلى أمواج تتحرك في كل اتجاه، وهي تمسك طفلها بين ذراعيها. الأقمشة مرة أخرى هي الموج المتحرك الذي تتوسطه المرأة حاملة وليدها، وهذا الثوب هو نفسه الذي سينشق بضربة عصى لاستكمال قصة سير النبي موسى على اليابسة.

الصوت الآتي من وراء الموسيقى ذات النبض الروحاني، يتلو بالفارسية النصوص التي أعطيت لنا على ورقة. والممثلات الثلاث مع الدمى التي تتغير بين أيديهن وتتبدل تبعا للنص الذي يحاولن تجسيده، يحركن مفاصل الدمى حتى تبدو وكأنها شريكة في التمثيل. أحيانا نحن لا نرى دمية، وإنما ما يشبه قناعا، يمكن لإحدى الممثلات أن تلبسه بيديها، وتجعل من أصابعها تاجا له لنشعر أننا أمام شخص يروي ويتحرك.

«الأرض والفصول» وتقلبات الإنسان، وحكاياته تستطيع زهرة صبري أن ترويها من دون صخب، وبأدوات متقشفة، قليلة، ومن خلال حركة للمؤدين على المسرح بطيئة، هادئة، ومدروسة بدقة، لتشعر أن الجمال يمكن أن يخرج من البساطة حين تمتزج بالرغبة الهائلة في جعل المعنى المجرد صورا ممتعة للبصر.

قصة النبي موسى تحتل نحو نصف مدة العرض حيث تقودنا تلك الرحلة إلى صحراء سيناء بجبالها وكثبانها ورعاتها وخرافها. مشهد الطبيعة الصحراوية الذي تختلط فيه زقزقة العصافير بثغاء الخراف، يصبح خلابا حين تستحضره زهرة صبري بعد أن تمده بكل أسباب الحياة والفتنة. المشهد يتحول، يتغير بحسب حركة الأقمشة التي بمقدورها أن تنتصب جبالا، تعلو وتنخفض أو تنبسط وتتموج وكأنها تلتهب تحت الشمس. تظن أن الحياة تدب في هذا الوادي المقدس الذي كثيرا ما قرأت عنه، لشدة ما تعتني هذه المخرجة الإيرانية بالتفاصيل، وتجعلك تندغم في أجواء سيناء، بمحض لعبة أقمشة ودمى وحركة متناغمة تحت إضاءة كاشفة كالنهار، أو غائمة كساعة الغروب.

في نهاية العرض الذي لعبت فيه أكف الفتيات، والشمس والقمر المرسومان على باطن هذه الأكف دور الحضور المتكرر، تعود الكرة السوداء المعلقة على جسد الفتاة لتجتاز المسرح، ثم تلتمع الكرة تدريجيا بعد ذلك، لنرى ما يشبه مرآة متكسرة كالشظايا. إنها حقيقة الحياة حين هبطت على الأرض من السماء مثل مرآة مكسورة، وكما وصفها جلال الدين الرومي.

«مسرح للدمى» لا يصلح للصغار، فميدانه التأمل والمعاني الروحانية، الباطنية، الخاشعة، الهادئة، التي تضجر الأطفال أكثر مما تسليهم. وهو مسرح له خصوصية فارسية، شرقية، إسلامية، خالصة، وكأنما زهرة صبري أرادت أن تخرج من التقاليد الغربية للمسرح في تحد عنيد لما هو مجلوب، وفي اعتماد لا ينضب على العنصر المحلي والتراث الصوفي.