«عدسات مفتوحة من العراق» تسجل وقائع الحياة اليومية

فيلم وثائقي يعرض خرائط بالكلمة والصورة في بيروت بتوقيع 12 امرأة عراقية

المشاركات استعدن ثقة كانت الحرب قد سلبتهن إياها. كل واحدة وقفت ثلاث ساعات لتجمع قطع حياتها بجدية وصراحة
TT

تقول المرأة العراقية لزميلاتها: «برنامجنا اليومي كالتالي: في الصباح عمل، وعند الظهر اشتباكات، وعصرا مفخخات».

كلام المرأة يرد في فيلم وثائقي بتوقيع المخرجة ميسون باجه جي عنوانه «عدسات مفتوحة من العراق»، تم عرضه في بيروت بمبادرة «أمم للتوثيق والأبحاث» في سياق مقارباتها السينمائية «وجها لوجه ما كان». وكانت «أمم» قد استبقت الوثائقي بمعرض في «هنغاريا» تضمن خرائط بيانية بالكلمة والصورة لهذه المرأة وزميلاتها. تقول ميسون باجه جي لـ«الشرق الأوسط»: «هن 12 امرأة من بغداد وكركوك والموصل والبصرة والفلوجة، حضرن إلى دمشق بناء على رغبة المصورة الصحافية الإنجليزية يوجيني دولبرغ، التي كانت ترى أن الوصول إلى معلومات عن الشعب العراقي ليس سهلا، لأن المعلومات الوحيدة التي يحصل عليها الصحافي مصادرها إما عسكرية أو حكومية. لكن لا أحد يعرف شيئا عن حياة الناس اليومية الذين تصطادهم القذائف والانفجارات. لذا قررت دولبرغ أن تنظم ورشة تصويرية لنساء عراقيات يحكين من خلالها بالصورة عن الناس العاديين وليس عن التطورات السياسية والعسكرية. وفي عام 2006 اختارت لهذه الغاية 12 امرأة خضعن في دمشق لدورة في التصوير الفوتوغرافي لمدة شهر، ومن ثم عدن إلى العراق ليصورن ما يردن». باجه جي وثقت لحظات هذه الدورة التي تحمل الكثير من الألم والمعاناة. فما نسمعه ونراه خلال مائة دقيقة كافية بإحداث انقلاب في الرؤية للهم العراقي أقسى بكثير من الخرائط البيانية «المهذبة». هذه اللحظات بدأت بتدريب المشاركات على استخدام آلات التصوير. كما رافقتهن في شوارع دمشق القديمة حيث الحقل التطبيقي للدروس النظرية. فتداخلت الدروس بالكم الهائل من السير الذاتية الشخصية والوطنية، التي تبدأ بالتمييز الفاقع ضد المرأة في مجتمعات صارمة ولا تنتهي بحكايات الموت مع تفاصيلها العراقية في زمن صدام حسين مرورا بالحرب مع إيران وليس انتهاءً بالاحتلال الأميركي. تابعت باجه جي عودة المشاركات إلى دمشق بعد قضائهن فترة ستة أسابيع في مدنهن العراقية، ليتم توضيب الحصيلة. بعض النسوة خاطرن وبعضهن التزمن الحذر. وخرجت كل واحدة بقصة تحمل مأساتها التي فرضت عليها إغفال كل ما يتعلق بالأمور الشخصية. بالكاد كان الهم ينحصر بالحفاظ على حياتهن وحياة أفراد العائلة في ظل الجنون الطائفي وآلة القتل المجاني من جهة، والاحتلال الأميركي الذي يستبيح المنازل من جهة ثانية. لكن هذه التجربة التي أرشفت في كتاب ويفترض أن تتابع تطورها عبر موقع إلكتروني، ساعدت المشاركات في استعادة الحيز الشخصي ودمجه بالمعاناة التي حرمت الشعب العراقي فرصة العيش الطبيعي. إنجاز العمل استغرق عامين (2006 - 2007)، شهدت خلالهما العراق أفظع جولات العنف خلال قمة التفجيرات والاغتيالات والخطف والطائفية، ليطل على الجمهور فيعرفه على وجه من وجوه الواقع العراقي بعيدا عن التجاذبات الإقليمية والدولية التي لا تراعي حرمة الحياة لشعب ينعدم لديه الأمل. تشير باجه جي إلى أن «أهمية التجربة أنها جمعت نساء من ديار مختلفة وشرائح اجتماعية وثقافية متنوعة. وهن لم يصورن الأحداث وفق أولوياتها الإعلامية، إنما حرصن على نقل الحياة في الصور التي شكلت همزة وصل بين العين والشعور».

وتضيف: «تابعت المشاركات في دمشق بعد عودتهن. غرقت في المشروع وتقربت من المشاركات وساعدت في كل التفاصيل مع أن عملي في الأساس هو الإخراج السينمائي. القصة الأساسية في هذه التجربة تكمن في ولادة العمل الإبداعي من مآسي الحروب. لوهلة يرى العالم أن الدنيا تتكسر داخل الإنسان وخارجه. لكن العمل الإبداعي يأتي ليعطينا القوة فنباشر ثانية بناء ما تدمر».

تقول إحدى المشاركات عن هذه التجربة: «للمرة الأولى فكرت في نفسي كإنسان وبحثت عن أحاسيسي وما يخيفني وما يسعدني. وبعد 40 عاما من الدكتاتورية ومن ثم احتلال العراق، اكتشفت أن لا وقت لدي بالتفكير في حياتي الشخصية. كل جهدي كان منصبا على البقاء والاستمرارية».

أصغر الراويات في هذه المجموعة النسوية هي ديما ابنة الست سنوات. وقد حضرت مع والدتها التي اختيرت في عداد المشاركات. إلا أن ديما قالت للمسؤولين عن الورشة. «أنا أيضا أمثل نساء العراق ولدي حكايتي وأريد أن أرويها». وكان لها ما أرادت، فهي تملك عينا كالمطبعة.

كتبت ديما بلهجة عراقية: «هسه بدأ العراق يفرغ. في صفي خمس تلميذات فقط. غابت ست معلمات واحدة بعد واحدة». ثم تسأل: «ليش ما يطردون الأميركان؟ الأميركان عندهم بلدهم. ليش جايين على بلدنا؟».

أما والدة ديما فذكرت أنها كانت تنتقل بهويات مزورة من مدينة إلى أخرى لتصور ما تريد. قالت: «رأيت بلدي بعدستي. بدا مختلفا عما كنت أراه بعينيّ». لجين، إحدى المشاركات من بغداد، كتبت: «توقفنا عن سماع صوت فيروز صباحا واكتفينا بأصوات منبهات السيارات»، لتضيف: «تكاد حكاية قناص شارع حيفا أن تصبح أسطورة في بغداد».

مشاركة أخرى كتبت تحت صورة من شارع المعلمين في بعقوبة: «يذبح الأبرياء على الطريقة الإسلامية (ذبح حلال)».

مريم من الفلوجة لا سخرية في حكايتها. نكاد نشم رائحة الموت من عباراتها القاسية وهي تتحدث عن السجن والقتل والتعذيب والانتقام في عهد صدام حسين، ومن ثم في مجازر العهد الحالي.

ريا من بغداد صورت شارع المتنبي، وكتبت: «بدأت أنظر إلى الأقدام وتذكرت كيف كبرت خطواتي في هذا الشارع. كم كنت حالمة عندما فكرت أن خطوات ابني ستكبر أيضا في هذا الشارع». ريا تقول: «بدأنا حدادا لا نعرف متى سينتهي». أما الطبيبة لؤلؤة فتحكي عن موقف عائلتها من اختطافها. سؤال والدتها الأول لها كان: «هل اغتصبوك؟». تكتب أن زوجها لم ينظر إليها. وتضيف: «قال لي إني حطمت حياته وأخزيته. وكلما سمعنا أن امرأة اختطفت يتوقف زوجي عن محادثتي لأيام».

المشاركات استعدن ثقة كانت الحرب قد سلبتهن إياها. كل واحدة وقفت ثلاث ساعات لتجمع قطع حياتها بجدية وصراحة. وكل واحدة انتبهت إلى تفاصيل لم تكن تظن أنها تقبع في ذاكرتها عندما سمعت ما لدى الأخريات. إحدى المشاركات غادرت العراق إلى السويد في لجوء سياسي. وخلال إقامتها في مخيم اللجوء نظمت ورشة تصوير لأطفال المخيم.

مشاركة أخرى هي سلوى عبد الوهاب، كانت تعمل مذيعة في تلفزيون محلي، أنجزت المشروع لكنها لن تشهد عروضه. فقد تلقت تهديدات بالقتل جراء عملها كمذيعة. وقتلت بالفعل لدى مغادرتها منزلها إلى عملها.

سلوى يمكن ذكر اسمها الحقيقي، لأنها قتلت. أما النساء الباقيات فقد فضلن توقيع خرائطهن بأسماء مستعارة خوفا على حياتهن. ويطمح منظمو هذا النشاط إلى عرضه في أرجاء العالم العربي وأوروبا. وفي حين عرضت حكاياتهن في سورية ولبنان والولايات المتحدة وبريطانيا، فإن العرض في بغداد سيقتصر على ما صورنه من دون الفيلم. والسبب يتكرر وهو الخوف على حياتهن من الميليشيات، على رغم الابتعاد عن السياسة في اللوحات والفيلم.