جدل حول الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية للحياة الصناعية

بعد أن تمكن علماء أميركيون من إنتاج أول خلية صناعية حية في المختبر

البروفسور عبد الله دار
TT

الإنجاز العلمي المثير للجدل المعلن عنه في مايو (أيار) الحالي، عن تمكن علماء أميركيين بقيادة العالم كريغ فينتر من إنتاج أول خلية صناعية حية في المختبر في العالم، الذي احتل مساحات كبيرة في وسائل الإعلام العالمية والمواقع الإلكترونية وبخاصة العلمية منها، قد تناوله كثير من العلماء والباحثين بالتحليل والتفسير، بين مؤيد ومرحب، ومعارض ومتوجس ومتخوف، وفي كل الأحوال فهذا الإنجاز يعتبره العلماء خطوة وقفزة علمية هائلة في تاريخ علم دراسة الخلية وعلوم الأحياء، إذ يفتح الباب أمام العلماء من أجل إنتاج أشكال جديدة من الحياة يمكن برمجتها جينيا لأداء كثير من الوظائف، ففي بيان لمجلة «ساينس» العلمية المتخصصة التي نشرت نتائج هذا الإنجاز، قال الباحثون من معهد جي كريغ فينتر (JCVI) إنهم ينتظرون استخدام هذا التطور العلمي لدراسة النظام الحيوي وتكوين بكتيريا متخصصة لحل المشكلات البيئية والطاقة.

جدير بالذكر أن هذا الإنجاز العلمي يدخل ضمن علم «البيولوجيا الصناعية» (Synthetic Biology) الذي يعد أحد علوم القرن الحادي والعشرين الواعدة بالسيطرة على أنظمة حية بالكامل لتغيير الكائنات الحية الموجودة أو ابتكار كائنات حية جديدة، وغالبا ما يوصف هذا العلم على أنه تصميم كائنات حية من العدم، باستخدام علم البيولوجيا الجزيئية وعلوم الكومبيوتر ومبادئ الهندسة من أجل فهم أفضل للعالم الحيوي وتصميم منتجات مفيدة، ويثير هذا العلم كثيرا من التساؤلات الأخلاقية حول الفوائد والمخاطر المحتملة.

في حوار أجرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية يوم 21 مايو الحالي مع رائد دراسات الجينوم (الخريطة الوراثية) كريغ فينتر الذي قاد هذا الإنجاز، يشرح فيه هذا التطور العلمي بقوله: «إنها المرة الأولى التي يتمكن فيها فرد من بناء ما مجموعه 1.08 مليون قاعدة من أزواج الكروموسومات (الصبغيات) وزرعت في خلية مضيفة (مستقبلة) مفرغة من مادتها الوراثية، حيث يمكن للكروموسوم الجديد أن يستولي على هذه الخلية ويتحكم بها ويحولها إلى نوع جديد يحدد خصائص الكروموسوم الجديد». ويضيف: «إنها المرة الأولى التي نحصل فيها على خلية يتحكم فيها بنسبة 100 في المائة كروموسوم صناعي (synthetic chromosome)». وفي مقابلة مع قناة «بي بي سي» البريطانية قال العالم فينتر: «لقد أصبح بمقدورنا أخذ الكروموسوم الصناعي وزرعه داخل خلية مستقبلة أي في كائن حي آخر، وعندما يتم إدخال البرنامج الجديد في الخلية فإن تلك الخلية تقوم بقراءته وبتحويله إلى كائنات محددة في تلك الشفرة الوراثية نفسها، وقد قامت البكتيريا الجديدة بالتوالد والتكاثر مليار مرة، منتجة بذلك نسخا جرى احتواؤها والتحكم بها من قبل الحمض النووي الصناعي». وردا على سؤال: هل يعد ذلك حياة صناعية؟ أجاب فينتر: «نعرفها حياة صناعية لأنها محددة كليا بواسطة كروموسوم صناعي، نحن بدأنا بخلية حية، لكن الكروموسوم الصناعي حول الخلية الحية كلية إلى نوع جديد من الخلية الصناعية، ولم يتبق هناك أي عنصر منفرد من الخلية المضيفة (المستقبلة). ويرى العلماء المؤيدون والمرحبون بهذا الإنجاز العلمي، أنه يمكن الاستفادة منه في تصنيع أشكال جديدة من الحياة يمكن برمجتها جينيا لتأدية وظائف محددة، كإنتاج وقود خال من الكربون أو إنتاج لقاحات وأدوية جديدة أو إنتاج أشكال جديدة من الأغذية أو في تنقية المياه.

وفي مقابلة عبر البريد الإلكتروني مع البروفسور عبد الله دار أستاذ الجراحة وعلوم الصحة العامة، مدير برنامج الأخلاقيات التطبيقية والبيوتكنولوجي والمدير المشارك للبرنامج الكندي للجينوم والصحة العالمية ومدير مركز الأخلاقيات والسياسة بمركز ماكلفلان للطب الجزيئي في جامعة تورنتو الكندية، وبسؤاله عن تقييمه لهذا الإنجاز العلمي وموقعه على خريطة الإنجازات العلمية لمشاهير العلماء أمثال داروين وأينشتين ونيوتن، قال: «من دون شك هذا إنجاز عظيم يمثل خطوة عملاقة للأمام خاصة في مجالي الهندسة الوراثية وعلم البيولوجيا الصناعية، فإنجاز فينتر يمثل تطورا نوعيا وجديدا على غرار ما قام به آخرون أمثال عالم الكيمياء الحيوية الأميركي بول بيرغ الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء مع آخرين عام 1980، الذين وضعوا أساسيات الهندسة الوراثية، وليس مثل إسحاق نيوتن وداروين وأمثالهما، فهؤلاء قد أحدثوا ثورة في تاريخ العلم وفي طريقة فهمنا لواقع العالم الحقيقي الذي نعيش فيه». وأضاف البروفسور دار أن تأثير إنجاز فينتر على علم البيوتكنولوجي وعلم الأحياء التطوري، سيكون واضحا خاصة في الطريقة التي نصنع بها الأشياء الضرورية مثل الطاقة النظيفة، إذ سيصبح من الممكن استخدام ثاني أكسيد الكربون كمصدر للحصول على طاقة نظيفة ورخيصة وبكميات كبيرة، وبالتالي يساعد على خفض نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو، والتطبيقات ستذهب إلى أبعد من ذلك فقد تساعد هذه التكنولوجيا على توفير مصادر متعددة لتوفير الغذاء وكذلك توفير كثير من الأدوية، فمثلا لدينا الآن مصادر جديدة في مجال البيولوجيا الصناعية التقليدية ساعدت في توفير عقار (الأرتيميسينين) لمكافحة الملاريا. بينما يرى المعارضون والمنتقدون والمتخوفون من هذا الإنجاز، أن تؤدي هذه التجارب إلى التلاعب في العالم الطبيعي، حيث يمكن أن تتسرب هذه الكائنات الصناعية إلى الطبيعة وتتسبب في تدمير البيئة أو تستخدم في صنع أسلحة بيولوجية. فقد حذرت مجموعة الضغط (إي تي سي) (ETC Group) الكندية في تقريرها الصادر في يناير (كانون الثاني) 2007، بعنوان «الهندسة الجينية المتطرفة: مقدمة في البيولوجيا الصناعية» (Extreme Genetic Engineering: An Introduction to Synthetic Biology): من أن علم البيولوجيا الصناعية رغم أنه يهدف للتوصل إلى أدوات رخيصة وسهلة وواسعة الانتشار، فإن إنتاج كائنات حية صناعية يطرح تهديدات خطيرة للبشر وللبيئة، والخطر لا يكمن فقط في الإرهاب البيولوجي (Bio - terror) وإنما أيضا في الخطأ البيولوجي (Bio - terror)، ويقول بات موني Pat Mooneyالمدير التنفيذي لمجموعة (إي تي سي)، إنه «على الرغم من أن معظم الأفراد لم يسمعوا على الإطلاق بالبيولوجيا الصناعية، فإنها تمضي بكامل سرعتها إلى الأمام، وتشعلها أعمال الزراعة العملاقة والطاقة والمؤسسات الكيميائية، بوجود قليل من الجدل بشأن من سوف يسيطر على هذه التكنولوجيا وكيف سيتم تنظيمها أم أنه لن يتم تنظيمها، على الرغم من المخاوف الجدية المحيطة بسلامة وأمن مخاطر الكائنات الحية للمصمم«. وبسؤال «الشرق الأوسط» للبروفسور عبد الله دار عن الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية للحياة الصناعية التي أنتجت في معهد جي كريغ فينتر (JCVI)، قال: «إن مصطلح أو مفهوم الحياة الصناعية، محمل بالكثير من المعاني والتفسيرات ومثير للمشاعر، دعينا نطلق عليه (الجينوم الصناعي)، وهو تطور طبيعي للهندسة الوراثية والبيولوجيا الصناعية الحالية، وكوني عضوا في مجموعة بحثية تدرس مثل هذه القضايا، أرى أن معظم التداعيات تشبه مثيلاتها من الأجيال الأخرى من التكنولوجيا، ولكن نحن بحاجة إلى أن ندرس بشكل دقيق ومفصل مخاطر وفوائد هذه التكنولوجيا والقوانين المتعلقة بالسلامة الخاصة بها، وما إذا كنا في حاجة للمزيد من إصدار ضوابط وقوانين جديدة، مثلما حدث بشأن الهندسة الوراثية بعد انعقاد مؤتمر رابطة تطور الذكاء الصناعي في أسيلومار (Asilomar) بكاليفورنيا الأميركية عام 1975»، وأضاف البروفسور دار أن «مجال البيولوجيا الصناعية يتطور بشكل سريع، وكما حدث في مجال الخلايا الجذعية، فإن البيولوجيا الصناعية ربما تقدم لنا إجابات للكثير من الأسئلة الأخلاقية التي تبدو صعبة في بداية عهدها».

وبسؤال البروفسور دار عن الرؤية الإسلامية لهذا الإنجاز ولمجال البيولوجيا الصناعية عموما، أجاب: «أعتقد بأنه إذا كان الإنسان مؤمنا سيصل إلى نتيجة بأن الله سبحانه وتعالى وهب البشر أداة رائعة ومتطورة بشكل فائق وهي المخ، وهي أعظم هبة في جميع المخلوقات وأن الله تعالى حث وحض البشر على تحسين البيئة التي يعيشون فيها، وهذا في الأساس يعني أن الله تعالى أراد للبشر أن يكونوا في مرتبة أدنى، ولكن مع هذا يشاركونه ملكة الإبداع. والجدل حول (القيام بدور الإله) (Playing God) واجهناه بعد وصول تكنولوجيا التلقيح الصناعي وكذلك بعد وصول الهندسة الوراثية، وأعتقد أن مسألة (القيام بدور الإله) لا تثير المسلمين كثيرا، فالأقطار المسلمة يوجد بها أكبر عيادات الإخصاب والتلقيح الصناعي. والهندسة الوراثية أعطتنا لقاحات رخيصة مثل فاكسين مرض التهاب الكبد بي، مما ساعد على إنقاذ حياة الملايين من الأفراد، وهذا يندرج ضمن تعاليم ديننا الإسلامي».

وعلى صعيد آخر، يؤكد كثير من العلماء على أهمية أن تتواصل المجتمعات العلمية مبكرا مع عامة الجماهير بخصوص التطورات العلمية المثيرة، للتعرف على موقفهم منها، وقبل أن يتعذر تغيير معارضتهم لها، فمع إعلان فينتر عن إنتاج خلية صناعية حية، جاء الإعلان عن نتائج دراسة على الجمهور البريطاني، بأن البريطانيين لا يعارضون فكرة إنتاج أشكال حياة صناعية مختبريا على أن يكون ذلك لأهداف نبيلة، وتأتي نتائج هذه الدراسة ضمن مشروع تموله الحكومة البريطانية لتطوير حوار مع الجمهور في مجال البحوث الميكروبيولوجية ويقوم بالإشراف عليه مجلس البحوث للعلوم البيولوجية والبيوتكنولوجية ومجلس البحوث للعلوم الفيزيائية والهندسية، ورصد له 250 ألف جنيه إسترليني في سبتمبر (أيلول) الماضي، وأشرك 160 شخصا تم اختيارهم بعناية من بين الجمهور من مناطق مختلفة من بريطانيا ويمثلون شرائح وأقليات مختلفة، بهدف إنشاء نوع من الحوار بعد الرفض الكبير الذي عرفته المحاصيل المعدلة وراثيا بين الجمهور البريطاني. وقال برايان جونسون المستشار المستقل الذي يرأس اللجنة المشرفة على الحوار مع الجمهور لصحيفة «الإندبندنت» البريطانية: «نحن نريد حوارا قبل أن تنزل منتجات البيولوجيا الصناعية في الأسواق، هذه التكنولوجيا ستكون مهمة جدا ويجب شرح طبيعتها بطريقة يفهمها الجمهور». وعلق جونسون على نتائج هذه الدراسة بالقول: «إننا لم نر أي معارضة شاملة لتكوين حياة صناعية، فالناس معجبون كثيرا بها، ويأملون بصدق أن يتمكن العالم من تحقيق وعوده، لكنهم في الوقت نفسه قلقون عمن سيتحكم في العلم والدافع وراء القيام بهذا النوع من البحوث». كذلك كشف الاستطلاع عن وجود مخاوف عميقة لدى الجمهور بخصوص الضوابط المنظمة لهذه البحوث، فهو على قناعة بوجود ضرورة أن تكون هذه الضوابط ذات بعد دولي، فهذا الجمهور حسبما قال جونسون «يجب أن يسأل كريغ فنتر حول دوافعه وراء القيام ببحوث من هذا النوع وعن الضوابط ذات العلاقة بها».

ويؤكد البروفسور دار، في حواره لـ«لشرق الأوسط»، على أهمية دور علماء الأخلاقيات والأديان تجاه هذه القضايا العلمية والتكنولوجية، إذ لا بد عليهم دراسة مثل هذه القضايا بجدية ودون تعاطف وتجنب اتخاذ قرارات اندفاعية، فالأخلاقيات لا تخدم بشكل أفضل بما يقال على المنابر أو من أروقة القصور الرئاسية«.

وفي تقرير خاص لمجلة «نيوساينتيست» البريطانية في عددها الصادر يوم 26 مايو، أكد البروفسور جورج تشارش أستاذ الجينات في كلية الطب جامعة هارفارد، على أهمية وضع قائمة بجميع المعامل التي تقوم بإجراء تجارب تتعلق بتخليق حياة صناعية، ونادى بضرورة ترخيص هذه المعامل، كما أكد تشارش لمجلة «نيتشر» البريطانية على موقعها الإلكتروني في 20 مايو، فيما يتعلق بوضع الضوابط التي تمنع تسرب أشكال حياة خطرة تمت صناعتها بطريقة تشبه تلك التي استخدمها فينتر وفريقه لإنتاج الميكروبلازما الجديدة أو بطرق أخرى، فهناك سيناريوهان: الخطأ البيولوجي، والإرهاب البيولوجي، فيما يتعلق بالخطأ البيولوجي لا بد من الترخيص والمراقبة عن طريق الكومبيوتر، أما بالنسبة لتجنب الإرهاب البيولوجي فلا بد من توحيد النظام الحيوي البيئي للمعامل لاختبار قدرة الجينوم الصناعي الجديد على أن يستمر أو يستبدل الجينات في الطبيعة.