مزيج علماني وديني في متاحف تركيا

معارض تعكس حرية المعتقدات التي مارستها كل من الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية

قصر توبكابي الذي عاش فيه السلاطين تحول الى متحف («نيويورك تايمز»)
TT

إذا ما وقفت في منتصف متحف آيا صوفيا في إسطنبول وحدقت بعينيك عاليا فيما يعد إحدى أعلى القباب في العالم، ستذهلك الطبقات المترابطة من الدمار والعظمة في هذه الكنيسة «كنيسة الحكمة المقدسة». ولا أعني فقط الطلاء المتدرج، أو السقالات التي تشير إلى أعمال الترميم المتأخرة، والفسيفساء الرائعة المختبئة تحت طبقات الجص.

وعلى مدار ألف عام من تشييدها في القرن السادس، كانت آيا صوفيا أكبر كاتدرائية في العالم، والمعلم الأبرز بالنسبة للمسيحية البيزنطية. ولا تزال تبدو دقيقة وذات أهمية، ومتعمقة، ومؤثرة، إنها إنجاز مذهل للغاية، عند النظر إلى قرون من الفتوحات الدينية والنهب الذي جردها تقريبا من جميع الزخارف التي كانت تحويها.

غضب الصليبيون في القرن الثالث عشر الميلادي من المسيحية الشرقية الغريبة في الكاتدرائية لدرجة أنهم نهبوا كنوزها. وبعدما كانت كاتدرائية للروم الكاثوليك لفترة قصيرة من الوقت، أصبحت مرة أخرى كنيسة بيزنطية. ثم في عام 1453، أي بعد الفتوحات التركية، قام السلطان محمد الثاني بتحويل الكنيسة إلى مسجد؛ وبعد ذلك قام الحكام بتشييد المآذن التي لا تزال تعطي للمنظر الخارجي شيئا من الغموض الغريب. وحتى الآن، تفرض الزخارف الدائرية الضخمة المنقوشة بالخط العربي نفسها على الفضاء الكهفي في المكان، لتؤكد أنه إذا كان ذلك هو بيت من بيوت الله بأي حال من الأحوال، فإن الروح المسيطرة هي الإسلام.

وفي عام 1934، وبأمر من مؤسس الجمهورية التركية العلمانية، مصطفى كمال أتاتورك، تم تحويل المسجد إلى متحف، على الرغم من أن عمليات الترميم غير المكتملة توحي بأنه بعد 80 عاما تقريبا لا تزال هذه الأعمال مستمرة.

وجميع هذه التغييرات ليست تحولات بريئة، ولا يزال عدد ليس بالكثير من البنايات هنا صامدا وراسخا مثل ذلك البناء، الذي تحمل أعباء أكثر من 1500 عام من المعارك وسفك الدماء والتأثيرات المختلطة. وبطبيعة الحال، يحدث شيء شبيه بذلك دوما في أعقاب الحروب الدينية؛ تم تحويل الجامع الكبير في قرطبة في إسبانيا، على سبيل المثال، إلى كاتدرائية للروم الكاثوليك بعد الاسترداد المسيحي في القرن الخامس عشر الميلادي.

ولكن ربما لأنه في إسطنبول كانت التحولات تتسم بدرجة كبيرة من العنف، وتستمر حتى الآن (وليس فقط في هذا المبنى)، وربما أيضا لأنني زرت المدينة في الآونة الأخيرة، في الوقت الذي تصاعدت فيه المناقشات حول هوية تركية كدولة علمانية، فكل شيء هنا يبدو متسما بالتقلب وعدم الاستقرار. وبإمكانك رؤية جميع الطبقات في وقت واحد. ولا يُسمح لأي شيء أن يصبح مألوفا بصورة كافية. وفي الفترة الراهنة، هناك خلاف بين قوى العلمانية والإسلام. وعندما تسير في منطقة المشاة في الشارع الرئيسي في المدينة، شارع الاستقلال، تبدو في نهاية المطاف وكأنك تسير عبر منطقة تسوق أوروبية عالمية في ظل وجود المتاجر والمطاعم الفاخرة، أو الحشود من الباعة مثل مرتادي المسارح في ميدان التايمز. لكن عندما تمر بجوار المساجد في أوقات الصلاة في ضاحيتي الفاتح والبلاط، سترى أن العلمانية تبدو كأنها ضرب من الخيال.

وفي بعض الحالات، مثل المتحف الذي كان مسجدا وكان قبله كنيسة، فإن هذه القوى تتداخل وتتشابك. وفي ميادين أخرى تتصادم هذه القوى، مثلما هو الحال في الفترة الراهنة في السياسة التركية، التي يقود فيها الحزب الحاكم ذو التوجهات الإسلامية البلاد، النقاش حول طبيعة القضاء ومحاكمة الشخصيات العسكرية. وبالنسبة للأجنبي، فإن الخيوط تتضافر مع تعقيد بيزنطي.

وقد نما لدي هذا الشعور أيضا من قراءة أعمال الروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل أورهان باموق. ففي روايته «الثلج»، علِق أحد الشعراء في عاصفة ثلجية في إحدى القرى على الحدود التركية في تسعينات القرن الماضي، وحاول فهم ما وجد. كانت هناك موجة من حالات الانتحار بين الفتيات، على الأقل قتل البعض أنفسهن نظرا لأن المدارس العلمانية كانت تحظر ارتداء الحجاب؛ وعلى الجانب الآخر، يخوض أحد الإسلاميين الانتخابات على منصب عمدة إحدى البلدات. هناك متشددون إسلاميون مخيفون وقاسون، وهناك علمانيون مخيفون وقاسون كذلك. وتتوافق نظريات المؤامرة لدى العلمانيين مع نظريات المؤامرة لدى الإسلاميين، وكلاهما قد يكون صحيحا. ويترك باموق الأمور غامضة.

وعلى الرغم من أن هناك شيئا ما سهل للغاية تقريبا في تأسيس باموق للتكافؤ، فإن ذلك قد يكون قريبا من الطريقة التي تبدو بها الأشياء، على الأقل هنا، ويرجع ذلك في بعض جوانبه إلى أن العلمانية تنطوي على مجموعة مختلفة من الدلالات في تركيا.

وعادة، في الغرب، ننظر إلى الحياة العلمانية على أنها تقريبا أمر سلبي، حيث إنها تأتي من تقييد المعتقد الديني، أو تجاوزه كلية. وترجع أصول العلمانية إلى عصر التنوير؛ حيث كان الاعتقاد السائد فيه هو أن العقل وليس الدين ينبغي أن يسود على الساحة العامة. لكن ذلك ليس في الواقع طبيعة العلمانية في تركيا. حتى مطلع القرن العشرين، كانت العلاقة حميمية للغاية بين القوى الدينية والسياسية لدرجة أنه عندما أسس أتاتورك الجمهورية عام 1923، فرض العلمانية كعقيدة دينية تقريبا. وكان على مفهوم الجمهورية العلمانية أن ينشأ بصورة فعالة من أنقاض الإمبراطورية العثمانية، التي كان فيها السلاطين محاربين إسلاميين. وفي الوقت ذاته، فإن علمانية الدولة الحديثة كان عليها أن تتقبل التاريخ الإسلامي لهذه الإمبراطورية.

وتستطيع فهم طبيعة المشكلة في متاحف الباب العالي، حيث كان يعيش السلاطين في الماضي. وفي أحد المعارض، هناك آثار مقدسة كان يراها في الماضي فقط الأسرة المالكة وضيوفها. والكلمات المكتوبة تخبرنا أننا ننظر إلى شعر من لحية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، والعصا التي استخدمها النبي موسى في ضرب الحجر في الصحراء، وسيف الملك داود، والعمامة التي كان يرتديها النبي يوسف. ويتعين على العلمانية أن تكون أكثر قوة مما هي عليه هناك كي تتنافس مع تلك القطع (ناهيك عن فحصها للتأكد من صحتها).

وكانت العلمانية هنا صورة من صور النزعة العسكرية: تم حظر الحجاب في المدارس والمنشآت الحكومية. وتمت السيطرة على الصلوات والخطب الدينية. وأصبح الجيش ذراع السلطة العلمانية. وكانت العلمانية تسيطر على الديمقراطية.

وبهذا المعنى، قد لا تكون السمة الأكثر قوة، والتي تعد سلاحا ذا حدين، للعلمانية التركية هي التجارة في شارع الاستقلال، أو المعارض الفنية القريبة، لكنها المتحف العسكري الضخم، وهو مبنى تمتلئ الخزانات به بالدروع الواقية للجسد والسيوف المعقوفة والمسدسات وأسلحة القرن العشرين. يتم رواية أكثر من ألف عام من التاريخ التركي في صورة التاريخ العسكري، وتدور القصص حول مبنى مذهل كان الأكاديمية العسكرية التي درس فيها أتاتورك نفسه. وتبدأ المعارض باقتباسة ملهمة من أتاتورك: على مدار أكثر من 7000 سنة، إنها تعلن بصورة خطيرة، «هل كانت هذه الأراضي هي مهد التركية؟»؛ والآن، من بين «الرعد والبرق والشمس» يبزغ «الأتراك» ظافرين.

وهذا المتحف ليس أقل من محاولة لتشكيل أسطورة حديثة، يصبح فيها التاريخ التركي جزءا من تقليد متماسك يبلغ ذروته في الدولة العلمانية الحديثة.

وقد يكون هذا الجهد الرامي إلى تشكيل تقليد يمثل انتصار الأتراك أيضا السبب وراء الطريقة التي يتم التعامل بها هنا مع المذابح التي ارتُكبت ضد الأرمن عام 1915. وعلى الرغم من أن عمليات القتل تلك وقعت قبل إنشاء الجمهورية وكانت بكل وضوح مرتبطة بالخلافات الدينية، فإن التفسير في المتحف العسكري يجعلها قضية دولة.

وفي «قاعة القضية الأرمينية بالوثائق»، نقرأ أنه كان هناك فترة أظهر فيها الأرمن مبادئ «التسامح والحب والعدالة»، وهي أساسيات الحكم التركي «التقليدي». لكن بعد ذلك، في القرن التاسع عشر، تحول الأرمن إلى معادين. وقتلت «منظمة إرهابية أرمينية آلاف الأتراك الأبرياء». ويعج المعرض بصور فوتوغرافية تهدف إلى تقديم دليل ليس على المذابح التركية ضد الأرمن، لكن على المذابح الأرمينية ضد الأتراك، وهي العلامات التي من المفترض أن تشير إلى أن الأرمن تخلوا عن عقيدة التسامح التي جسدتها الدولة العلمانية.

كما يجب أن يكون هذا الاتحاد بين النزعة العسكرية والعلمانية، الذي يعد ضارا في بعض الأحيان، إلى اتحاد تعويضي بين الإسلام والليبرالية، والذي تم استغلاله من جانب الحزب الحاكم الحالي (وبصورة عاطفية من جانب الغرب). لكن ذلك يعد اتحادا غير مستقر.

ومما لا شك فيه أنه كان هناك تقليد التسامح مع الأقليات في إسطنبول الإسلامية في ظل حكم السلاطين، على الرغم من أنه كان يُمارس فقط في ظل درجات متفاوتة من الاحترام والمطالب. لكن، لماذا يعد من الصعب للغاية الإقرار بذلك؟ يبدو أن المتحف اليهودي في تركيا يتعمد تجاهل المؤهلات؛ لقد افتُتح عام 2001 برعاية مؤسسة أنشئت للاحتفال بـ500 عام من التسامح والتناغم بين الأتراك واليهود. وكان الكثير من اليهود في إسطنبول (الذين كانوا يشكلون في الماضي أكبر تجمعات سكانية يهودية حضارية في العالم) منفيين من الطرد عام 1492 من إسبانيا والبرتغال.

وهذه المعارض في هذا المتحف الصغير تؤكد مرارا وتكرارا على الترحيب الذي وجده اليهود هنا، وعلى الحرية الدينية «التي قدمتها كل من الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية». وتحتفل الصور الفوتوغرافية بالإنجازات التي حققها اليهود في المجتمع المدني. فعلى مدار أكثر من 500 عام، لا يبدو أنه كان هناك جواسيس سريون جديرون بالذكر. لكن ذلك لا يتوافق بصورة كبيرة مع التاريخ الدموي للإمبراطورية وقوتها السلطانية.

ومجرد وجود هذا المتحف يقود إلى بعض الشك حول هذه النقطة. إنه يقع في معبد قديم، ليس بسبب أي فكرة من أفكار العلمانية، لكن لأن كل ما تبقى من الجالية اليهودية هنا اندثر. في السنوات الأخيرة، ازدادت حدة الإرهاب الإسلامي: هجمات ضد المعابد الأخرى في المدينة أسفرت عن مصرع العشرات وإصابة المئات. وعلى الرغم من أن هذا المتحف يقع بالقرب من أحد الميادين الرئيسية في إسطنبول، فإنه يكاد يكون من المستحيل العثور عليه، حيث إنه يقع في زقاق صغير في ضاحية تسيطر عليها متاجر الأجهزة والمعدات البحرية.

وفي نهاية هذا الزقاق، توجد لافتة صغيرة مكتوب عليها، من دون الخوض في التفاصيل، «المتحف»، وسهم يشير إلى الطريق. وهذه اللافتة معلقة على كشك أبيض مغلق يوجد به حارس مسلح. لمزيد من المعلومات حول آيا صوفيا والمتحف العسكري والباب العالي، تفضلوا بزيارة الموقع الإلكتروني «http://english.istanbul.gov.tr». ولمزيد من المعلومات حول المتحف اليهودي في تركيا، تفضلوا بزيارة الموقع الإلكتروني «www.muze500.com».

* خدمة «نيويورك تايمز»