مدمنو التكنولوجيا يدفعون الثمن باهظا

يقول العلماء إن البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية والمعلومات المستقبلة تسبب التفكير المشتت والافتقار إلى التركيز

مستخدمو الحاسب الآلي في العمل يتابعون الإنترنت أو يتفحصون البريد الإلكتروني أو البرامج ما يقرب من 37 مرة في الساعة كما أظهرت الأبحاث
TT

عندما وصل إلى بريده الإلكتروني أهم رسالة في حياته قبل عدة سنوات، لم يلق كورد كامبل إليها بالا. ولم يمتد ذلك التجاهل ليوم أو يومين بل 12 يوما، وأخيرا وصل إليها مصادفة وهو يتفحص رسائله القديمة. كانت شركة الحاسبات الضخمة ترغب في شراء مشغل الإنترنت الذي ابتكره.

يصف كامبل تلك اللحظة قائلا: «انتفضت من مكتبي وقلت يا إلهي، يا إلهي، كيف أمكن لي أن أفوت رسالة بهذه الأهمية، لكنني فعلت».

كان السبب في عدم انتباهه لتلك الرسالة ذلك الطوفان الإلكتروني الذي غصت به شاشة الكومبيوتر ما بين رسائل بريد إلكتروني ورسائل عاجلة ومحادثات وتصفح وبرنامج حاسب كان يعمل عليه.

وعلى الرغم من تمكنه من اقتناص 1.3 مليون دولار من الشركة قيمة الصفقة بعد الاعتذار عن التأخير، فإن كامبل يجاهد للتخلص من تأثيرات طوفان المعلومات الذي بدأ ينغص عليه حياته. فحتى بعد أن ينتهي من العمل على مشاريعه على الحاسب تمتد تأثيراتها إلى ما بعد ذلك، فينسى أمورا مثل خطط العشاء ويعاني مشكلات في التركيز مع عائلته.

وتشكو زوجته بريندا من ذلك، مشيرة إلى أنه قد يبدو في بعض الأحيان وكأنه غائب عن الوعي.

يرى العلماء في تفسير تلك الحالة أن التواصل الدائم مع رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية والمعلومات المستقبلة يمكنها أن تغير من طريقة تفكير وسلوك الأفراد. ويقولون إن قدرتنا على التفكير تتقوض نتيجة غزارة هذه المعلومات. حيث يقوم طوفان المعلومات بإثارة الحواس للاستجابة الفورية للفرص والتهديدات، وتقوم هذه المحفزات بإثارة الرغبة التي يقول الباحثون إنها قد تتسبب في نوع من الإدمان، والتي يشعر الأفراد ففي غيابها بالملل.

هذا التشتت يمكن أن يكون ذا عواقب خطيرة، تماما كما يتسبب إدمان السائقين ومهندسي القطارات استعمال الهواتف الجوالة في وقوع الحوادث. وبالنسبة للملايين من أمثال كامبل فإن تلك المثيرات قد تتسبب في إصابات العنق وتوقف عملية الإبداع والتفكير العميق ويعوق العمل والحياة الأسرية.

على الرغم من تباهي الكثيرين بأن تعدد المهام تجعلهم أكثر إنتاجية، فإن الأبحاث أثبتت عكس ذلك. فيقول العلماء إن المهام المتعددة والمعقدة غالبا ما تتسبب في مشكلات كثيرة في التركيز ونسيان المعلومات والمعاناة من الإرهاق الشديد.

ويرى العلماء أنه حتى بعد انتهاء المهام المتعددة التي يقوم بها الفرد، فإن التفكير المشتت للشخص والافتقار إلى التركيز يتواصل. وهو ما يعني أن حاسوب عقلك قد توقف هو الآخر.

وتقول نورا فولكو، مديرة المعهد الوطني لسوء استعمال الأدوية، وأحد أبرز علماء المخ على مستوى العالم: «إن التكنولوجيا تعيد ربط عقولنا» وقد خلصت في أبحاثها وعدد آخر من العلماء إلى أن إدمان المثيرات الرقمية يأتي بصورة أقل من إدمان الأدوية والكحول وبصورة أكثر من إدمان الطعام والجنس، وأشارت إلى أنه برغم أهمية التكنولوجيا فإنها قد تأتي بنتائج عكسية.

ويرى العلماء أن التكنولوجيا يمكن أن تفيد عقولنا بعدة طرق، فمن خلال مقارنة الصور التي أجريت على مخ عدد من مستخدمي الإنترنت وُجد أن عقولهم أصبحت أكثر كفاءة في البحث عن المعلومات وأن لاعبي بعض ألعاب الفيديو تطورت مهاراتهم في الحدة البصرية.

وعلى الرغم من هذه المساوئ التي يمكن أن تذكر فإن الهواتف الجوالة والحاسبات أحدثت تغيرات هامة في الحياة. فقد سمحت للأفراد بالهرب من دائرة حياتهم وأعمالهم إلى أماكن أرحب، ونجحوا في تقليص المسافات والتعامل مع عدد لا نهائي من المهام وقضاء وقت أطول في السعي وراء حرف أكثر إمتاعا.

لكن ذلك أدى إلى تزايد معدل الاستهلاك الإعلامي اليومي للفرد، سواء أكان عبر التلفزيون أو البريد الإلكتروني، بصورة كبيرة جدا. ففي عام 2008 استهلك الأفراد ثلاثة أضعاف كمية المعلومات اليومية التي استهلكوها عام 1960. وهم يحولون اهتماماتهم بصورة منتظمة. فمستخدمو الحاسب الآلي في العمل يتابعون الإنترنت أو يتفحصون البريد الإلكتروني أو البرامج ما يقرب من 37 مرة في الساعة، كما أظهرت الأبحاث.

ويرى آدم غزالي، أستاذ المخ والأعصاب في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو أن ذلك التفاعل المتسمر أحد أهم التحولات في البيئة الإنسانية.

فيقول: «إننا نعرض مخنا للبيئة ونطلب منها القيام بأمور لا نكون بالضرورة مشتركين فيها، ونعلم بالفعل بأنه ستكون هناك عواقب».

عاش كامبل، 43 عاما، في عصر الحاسبات الشخصية، وهو مستخدم شره للتكنولوجيا أكثر من المعتاد. لكن الباحثين يقولون إن ما يعانيه كامبل وأسرته يماثل ما يعانيه، وما سيعانيه الكثيرون إذا تواصل هذا الاتجاه.

ويرى كامبل أن أعصابه باتت أكثر حدة وبات من الصعب التخلص من التأثيرات.

وقد انتقلت أسرة كامبل من أوكلاهوما إلى كاليفورنيا لافتتاح شركة برمجيات لأن حياته كانت تدور حول الكومبيوتر.

ارتباط كامبل بالحاسبات جعله لا ينام إلا وحاسبه المحمول أو جهاز الآي فون على صدره وعندما يصحو من النوم يعود إلى الإنترنت مرة أخرى، ويتجه هو وزوجته، 39 عاما، إلى المطبخ المرتب في منزلهما المكون من أربع غرف في إحدى الضواحي الغنية في سان فرانسيسكو، حيث تعد زوجته الإفطار وتشاهد التلفزيون في زاوية على شاشة الحاسب فيما يستخدم هو باقي الشاشة لتفحص البريد الإلكتروني.

تنشب الكثير من المشاجرات لأن كامبل قد يهجر زوجته إلى ألعاب الفيديو. وفي إجازات العائلة يواجه كامبل مشكلة في التخلي عن أجهزته. وعندما يركب قطار الأنفاق في سان فرانسيسكو يعلم أنه سيغيب عن الإنترنت لمدة 221 ثانية حتى يخرج القطار من النفق.

وقد تلقى ابنهما كونور، 16 عاما، الذي يتسم بالطول والأدب كوالده، أول درجة ضعيف في حياته، وألقت الأسرة باللوم على انشغاله هو الآخر بحاسبه، أما ابنتهما ليلي، 8 سنوات، الأشبه بأمها فتخبر والدها بأنها تحب التكنولوجيا أكثر من العائلة.

وبحسب البحث الذي أجراه علماء في جامعة كاليفورنيا، بسان دييغو فإن العائلة تمضي في المنزل أمام وسائل الإعلام 12 ساعة يوميا في المتوسط، فإذا ما أمضوا ساعة أمام الإنترنت والتلفزيون في آن واحد، على سبيل المثال، فإن ذلك يحسب بساعتين، هو ما يعادل خمس ساعات خلال عام 1960. وخلص البحث الذي أجراه موقع «وقت الإنقاذ» أن مستخدمي الإنترنت يزورون 40 موقعا يوميا.

ومع تغير الحاسبات تغير فهم المخ البشري. فحتى 15 عاما مضت، اعتقد العلماء أن المخ يتوقف عن التطور بعد الطفولة. والآن يقولون إن الشبكة العصبية تستمر في التطور وتتأثر بأمور مثل تعلم المهارات.

* خدمة «نيويورك تايمز»