تمثال ديليسبس طريح المخازن وجدل حول إعادته لنصبه التذكاري

أسقطوه عن قاعدته في بورسعيد إبان العدوان الثلاثي عام 1956

القاعدة الحجرية التي كان يقف عليها تمثال ديليسبس في بورسعيد («الشرق الأوسط»)
TT

تعيق خلافات بين أبناء مدينة بورسعيد (على قناة السويس بمصر) إعادة نصب تمثال فرديناند ديليسبس، الرجل الفرنسي صاحب مشروع حفر أهم ممر ملاحي استراتيجي بالعالم. وبينما يدعو البعض إلى إعادة التمثال الذي تم إزالته من قاعدته منذ نحو نصف قرن، يعارض آخرون إعادة نصب التمثال، معتبرين صاحبه ممثلا للاحتلال. ويرقد التمثال حاليا في أحد مخازن ورش الترسانة البحرية ببورسعيد منذ أن أسقطه أهالي المدينة عن قاعدته إبان العدوان الثلاثي (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) على مصر عام 1956. وعلى الجهة الغربية للمدخل الشمالي لقناة السويس، ما زالت قاعدة التمثال الحجرية ترتفع لتسعة أمتار في الهواء، من دون التمثال، وتثير علامات الدهشة على وجوه من يراها من المارين على متن السفن العابرة ممن لا يدرون بتاريخ القناة.

ويعود تاريخ القاعدة الحجرية، إلى زمن حفر القناة ذاتها منذ أكثر من 150 عاما. أما تمثال ديليسبس الذي أطاح به الأهالي في خمسينات القرن الماضي، فكان واقفا وهو يشير بإصبعه إلى مدخل القناة. ويقول الدكتور يحيى الشاعر، قائد المجموعات الشعبية المقاتلة في بورسعيد: «قمت بنسف تمثال ديليسبس، آخر شعار للسيطرة الأجنبية على مصر».

ويوضح الشاعر في مذكراته «الوجه الآخر للميدالية.. من أسرار المقاومة الشعبية في بورسعيد»، أنه ما كاد الشعب يفتح عيونه في الصباح الباكر ليوم الاثنين 24 من ديسمبر (كانون الأول) 1956، وعقب انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من مصر بعد اعتداء ثلاثي ضم معهما إسرائيل، تأديبا لمصر وحكومتها على تأميم قناة السويس، حتى توجه أهالي مدينة بورسعيد إلى منطقة الرصيف التي يوجد بها تمثال ديليسبس ليتأكدوا من مغادرة آخر السفن واختفائها خلف خط الأفق. وكانت صدمة الأهالي كبيرة بالتذكار الذي تركه المعتدون خلفهم، ممثلا في علمين بريطاني وفرنسي متوسطي الحجم مربوطين على ذراع تمثال ديليسبس اليمنى، وعلاوة على ذلك فقد وضعوا بيريه (طاقية) على رأس التمثال يخص جنود وحدة مظلات فرنسية. وقاموا بدهن التمثال بطبقة شحم كثيفة لمنع الأفراد من التسلق وانتزاعهما، دلالة على استمرار سيطرتهم المعنوية على المدينة.

وتابع الشاعر أن ما شاهده المواطنون زاد من غضبهم واستيائهم، فحاول الكثير من الأفراد التسلق على التمثال وقاعدته، إلا أن طبقة الشحم، التي دهن بها التمثال ومنصة قاعدته، لم تمكنهم من ذلك. فطلبوا من قوات الدفاع المدني «المطافئ» إمدادهم بأحد السلالم الطويلة من معداتهم حتى يتسلقوا إلى قاعدة التمثال ويتمكنوا من نزع العلمين الأجنبيين.. وتسلق أحد المواطنين وانتزع العلمين وألقى بهما للجماهير المتجمعة حول القاعدة الضخمة، حيث داس المتجمعون عليهما في غضب بأقدامهم، وبصقوا عليهما وبدأوا تمزيقهما إلى قطع صغيرة، وأخيرا أشعلوا فيهما النار تعبيرا عن الغضب، وبدأت السماء تمتلئ بالهتاف «الله أكبر، تحيا مصر، يعيش جمال عبد الناصر».

ويصف الشاعر اللحظة قائلا: «أحضر أحد البمبوطية (البحارة المحليون) حبلا سميكا وتسلق على السلم إلى القاعدة المدهونة بالشحم الزلق، وربط الحبل حول عنق تمثال ديليسبس، فتسابق الكثير من المواطنين وأمسكوا بالطرف الآخر من الحبل وبدأوا يسحبونه من الناحية الشمالية بقوة وشدة، أملا جذب التمثال إلى الأرض، ولكن دون جدوى».

ويسجل الشاعر أن قيادة المقاومة الشعبية بقيادة البكباشي سمير غانم كانت قد أعدت العدة ليلة انسحاب القوات لتفجير التمثال، ويقول: «في هذا الوقت، وصل سمير غانم، قائد العمليات الفدائية، إلى منطقة تجمع المواطنين حاملا حقيبة سوداء بها اثنا عشر قالبا متفجرا (TNT) دون فتيل الأمان أو كبسولات التفجير. وتعالت أصوات المتجمعين تشق عنان سماء بورسعيد. ولم يتم تفجير القاعدة إلا بعد ثلاث محاولات، وفي المرة الأخيرة، انقشع الغبار.. ونظرنا إلى المياه لنرى التمثال يرقد على وجهه وقد انقطع رأسه، بينما ركب الكثير من الشباب والأطفال والمواطنين فوقه راقصين وهاتفين».

وعلى الرغم من عودة العلاقات الدبلوماسية والودية بين مصر وفرنسا إلى طبيعتها، فإن التمثال لا يزال يواجه جدلا حادا بين مؤيد ومعارض بشأن إعادة تكريمه ووضعه مجددا فوق قاعدته، حيث يرى بعض من أهالي بورسعيد أن إعادة التمثال تعتبر بمثابة التذكير لكل أهالي وزوار المدينة الساحلية لأيام الاستعمار، إلى جانب ما يثار حول تاريخ السخرة إبان حفر القناة.

البدري فرغلي، عضو البرلمان المصري السابق عن بورسعيد، يعد أحد أشد المعارضين لعودة التمثال إلى قاعدته، ويقود الاتجاه الشعبي الرافض لهذا الأمر قناعة منهم بأن القاعدة الشاغرة تعد تخليدا لذكرى انتصار إرادة الشعب البورسعيدي الذي لقن جيوش العدوان الثلاثي درسا لا ينسى.

يقول فرغلي إنه يستند في رفضه إلى إيمانه القوي بوطنية بورسعيد وأن «ما هدمه الشعب المصري بإرادته الحرة يجب ألا نعيده نحن الآن، فعودة التمثال إلى سابق عهده معاداة لموقف اتخذه شعب بورسعيد».

ويؤكد فرغلي أن ما يطالب به وموقفه المعارض لعودة التمثال يعتبره البعض كلاما مستهلكا، لكنه مصمم على الدفاع عن شرف المدينة، ويتساءل البدري: «هل نعيد التمثال ونعيد رمز الاستعمار؟».

ويطالب فرغلي عوضا عن ذلك باستغلال القاعدة ووضع تمثال للفلاح المصري الذي حفر القناة عليها أو لجمال عبد الناصر صاحب قرار تأميم قناة السويس، مستنكرا موقف المطالبين بعودة التمثال وطمسهم حقائق التاريخ. ويتساءل: «ألا يدل موقفهم على امتنانهم لديليسبس، ابن فرنسا، ونكرانهم للفلاح ابن مصر».

وعلى جانب الجدل الآخر، يطالب عبد الرحمن بصلة، عضو مجلس محلي محافظة بورسعيد عن حزب الوفد، بعودة التمثال إلى قاعدته لما في ذلك من عرفان بالجميل للدبلوماسي الفرنسي صاحب فكرة شق القناة.

ويضيف بصلة أن هذا لا يعني إغفالا لدور الشعب البورسعيدي الذي قام بنسف التمثال تعبيرا عن غضبه ورفضه السيطرة والاستعمار الأجنبي، فالتاريخ سجل بطولة أهالي المدينة في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر، وعودة التمثال لا تعبر عن طمس حق الشعب وكفاح المقاومة، بل على العكس تبقى شاهدة على إسقاط الاحتلال. واقترح بصلة أن يتم عمل استفتاء شعبي لأهالي بورسعيد يتم من خلاله رصد موافقة أو معارضة الأهالي على عودة التمثال. وتابع أنه «إذا أسفر الاستفتاء عن رفض عودة التمثال لقاعدته، فيمكن إقامة قاعدة رخامية في حديقة المتحف القومي ببورسعيد، المواجهة للقاعدة الأصلية، ووضع التمثال عليها».

ويقول بصلة إن عودة التمثال تعد فرصة حقيقية للاستفادة من العروض التي تقدمها الحكومة الفرنسية لمدينة بورسعيد، حيث وعدت جمعية الصداقة والثقافة الفرنسية «جمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس» السلطات المحلية بإقامة أكبر مجمع ثقافي فرنسي وتجميل المنطقة مع عمل تطوير يحكي قصة كفاح الشعب المصري في حفر قناة السويس ونضاله ضد العدوان الثلاثي، مع عودة التمثال، بما يجعلها تماثل قطعة من مدينة باريس، ويضع بورسعيد على خريطة السياحة الفرنسية ويهيئها لاستقبال الوفود، مع تقديم منحة سنوية مقدارها 50 مليون يورو للمدينة.

كما وجهت الحكومة الفرنسية دعوة إلى وزارة الثقافة تطالب فيها بإعادة تمثال ديليسبس إلى قاعدته ببورسعيد والتزامها جميع التكاليف الخاصة بذلك، ووعدت بإقامة احتفال عالمي سنوي بالمدينة، يبدأ في اليوم الموافق لافتتاح القناة ويستمر لمدة شهر، مع توفير الدعاية والترويج الإعلامي المناسب.

ويؤكد بصلة أن الاستفادة من العروض الفرنسية وعودة التمثال لقاعدته الأصلية لا يمس تاريخ المقاومة الشعبية العظيم في بورسعيد، إنما يعني نقلة حضارية واقتصادية للمدينة.

ويشير التاريخ إلى أن فرديناند ديليسبس هو الدبلوماسي الفرنسي الذي صنع لنفسه مجدا وارتبط اسمه في أذهان المصريين والعالم أجمع بمشروع حفر قناة السويس، محققا حلم التجارة العالمية في ربط المشرق بالمغرب.

ورحل الدبلوماسي الفرنسي عن مصر بعد أن حقق حلمه تاركا وراءه مشروعا غيَّر وجه الأرض، وخلف وراءه آثارا شاهدة على عصره، ومقتنيات تعبر عن وجوده على أرض القناة، وإن اعتراها بعض التجاهل والإهمال إلا أنها لا تزال قابعة شاهدة على وجوده.

وتقع القاعدة على ممشى يطل مباشرة على قناة السويس، مقام على مساحة مرتفعة عن الأرض بنحو 10 أمتار، ويتم الصعود إليها بسلالم. بينما تقع أسفل الممشى، عند جانبه الداخلي الذي يطل على ميناء بورسعيد، محلات تجارية تم تخصيصها لخدمات السفن ومخازن ومحلات لـ«البمبوطية» (البحارة المحليين) لعرض بضائعهم الشرقية على السياح من راكبي السفن التي تمر من القناة.