رباب نمر.. تعزف على وتر الصيادين والمراكب بطفولة لونية دافئة

في معرضها «بحر الأنفوشي» بقاعة الزمالك في القاهرة

TT

خبرة خاصة مع الخامة ومعرفة عميقة بخباياها وأسرارها تتجلى على نحو مدهش في معرضها الجديد بقاعة الزمالك للفنون بالقاهرة. فبعد أن مارست الفنانة السكندرية رباب نمر تشكيل اللوحات بالحبر الأسود ليتناجى مع اللون الأبيض لسنوات طويلة، وأضفت من خلالهما على لوحاتها طابعا سيمفونيا، معبرة عن عالم متناقض تتراقص مفرداته على نغمات الخط. ها هي تؤكد حضورها الفني المميز، وعبر أسلوب خاص حفرته لنفسها خلال تلك الفترة، وهو أسلوب أصبح يدل عليها حتى لو لم توقع على لوحاتها بالاسم. وعلى الرغم من عالمها المحدد، عالم حي الأنفوشي السكندري الشعبي بصياديه وطيوره وأسماكه ومقاهيه البسيطة، فإنها لم تقع في شرك الملل والتكرار، واستطاعت أن توسعه وتجدده وتضيف إليه في كل أعمالها وتمنحنا متعة بصرية مثيرة للتأمل والإعجاب.

منذ أربع سنوات تقريبا بدأت رباب نمر في تلوين لوحاتها شيئا فشيئا، وإن كانت حتى الآن لم تنسَ الأبيض والأسود - غرامها القديم - لهما حضورهما الصريح والمراوغ في لوحات كثيرة حتى لو كانت الألوان تلعب دور البطولة.

في معرضها الأخير تجولت رباب نمر في عالمها الأثير، حي الأنفوشي الشعبي، وسمّت معرضها «بحر الأنفوشي» ليجتاح اللون بقوة عالمها السكندري، مستخدمة الحبر الشيني الملّون وأقلام «الربيدو» الرفيعة. في هذا المعرض تشعر بأشعة الشمس تضيء وتضحك في وجوه وملابس الصيادين، دفء يملأ اللوحة حتى الألوان الباردة القليلة تشعر أنها استدفأت من جيرانها الأكثر سخونة.. لكن لماذا تشع اللوحات بكل هذا الضوء والدفء؟ هل يأتي هذا من المكان أم من البشر أنفسهم؟ تجيب رباب نمر عن ذلك قائلة: «الدفء يأتي من البشر بالتأكيد فهم هناك لا يزالون متدثرين في طيبتهم. الناس في الأنفوشي بسيطة ودافئة بالفعل». لذلك تحنو على وجوه الصيادين وكأنها تنحتها من الغرانيت والأحجار، فالوجوه عندها تبدو كأحجار متراصة ورغم ذلك تنبض بالبراءة.. وتبرز الأيادي ككتل ضخمة قوية، حجرية الملمس كذلك، حتى إنها في بعض اللوحات تبدو أكبر من الوجه نفسه، يستوي في ذلك الرجل والمرأة على السواء، تبرر رباب هذا المنحى في أسلوبها وتقول: «نعم أقصد ذلك فالصيادون لهم طبيعة خاصة تسبب فيها نوع عملهم، لذلك أقصد أن أشكل مدى القوة والصلابة التي يتمتعون بها، ويأتي ذلك في الوجه واليد التي بالفعل أبرزها وأجعلها كبيرة حتى عند الأنثى، فامرأة الصياد قوية مثله ولها نفس طبيعته». لذلك تتكلم اليد وتتحاور في اللوحات، كما أن لها لغتها الخاصة كأنها شفاه وعيون تملك القدرة على التعبير وتكثيفه بمستويات كثيرة.

يتوافق مع هذا زوايا الأشكال الحادة، حتى إن أبطال اللوحات يبدون - في أحيان كثيرة - كأنهم مثل المراكب الورقية التي يصنعها الأطفال لكنها حجرية في الوقت نفسه. ترسم الفنانة الكتف حتى الكوع في شكل مستطيل وتكمل بقية الذراع بنفس الطريقة على شكل مستطيلات مقسمة إلى مثلثات كبيرة، حتى الوجوه أحيانا كثيرة تكون خطوطها حادة الملامس، وكذلك الطيور والأسماك، وهو ما يشي بلمسة تكعيبية مموهة بفرشاة لها طبيعة أداء خاصة جدا.

في بعض اللوحات استعارت رباب أجواء لوحة دافنشي الشهيرة «العشاء الأخير»، لكنها تناولت مائدة المسيح بأسلوبها الخاص مظللة شبح الواشي الخائن بلون رمادي وكأنه دخيل على اللوحة وعلى المكان وليس جزءا من نسيج المشهد.. تبرر رباب هذه الاستعارة بأنها أحبت لوحة دافنشي، ودفعها هذا لتقديم المشهد مرة أخرى بأسلوبها «وجدت نفسي مستسلمة لسحر الموضوع ولا أعلم لماذا بالتحديد».

التظليل عند رباب نمر يكشف عن خبرة طويلة وحرفية عالية وتقنية مدهشة، لا تأتي إلا من عشق خاص لمساقط النور والضوء. وكيفية اصطيادهما في دهاليز العتمة. وهنا تكشف اللوحات أيضا عن أنوثة طافرة، وأن من يرسم امرأة تعتني بالتفاصيل والمنمنمات بصبر وطول بال كالأم التي ترعى وليدها ليكبر شيئا فشيئا.. فكثيرا ما تعطي اللوحة إيحاء بأنها مرسومة على قماش لكن ينفي ذلك البرواز والزجاج الموجودة تحته اللوحة وكذلك الخامة المستخدمة، حيث ينداح في نسيج محكم اصطكاك أقلام الحبر الرفيعة جدا على مسطح ورق «الفبريانو» موحيا برائحة القماش التوال. أيضا الملامس التي تريدها لعناصر اللوحة لا تأتي إلا من الخبرة والحرفية العالية التي تتآزر مع إحساس فني رفيع المستوى.

تأخذ رباب ألوانها وموتيفاتها من الروح الشعبية البسيطة، تعيد صياغتها في نسيج الرؤية والتشكيل. فتشعر أحيانا كثيرة أن الملابس عندها ما هي إلا أشرعة المراكب.