تونس: مهرجان الساف بالهوارية.. موعد عشاق الطيور السنوي

الصيد بالصقور عادة توارثها أهالي المنطقة منذ القدم

TT

البحر ساكن سكون الليل والقراصنة الشداد قد رموا المرساة في انتظار أن يتسللوا تحت جناح الظلام إلى اليابسة، دليلهم في ذلك شعلات من النار الموقدة بمناسبة زفاف فتاة من فتيات الهوارية على قريبها.. فجأة، يهجم القراصنة الرومان على موكب الاحتفال ويختطفون العروس من أهلها ويفرون بها إلى صقلية الإيطالية التي لا تبعد عن الهوارية غير 160 كلم... يتناثر ذكر الفتاة السبية عبر السنين ولكنها في موطنها الإيطالي لا تنسى أن تلقن ابنها الصغير دروسا عن أصوله العربية، تمر عقود من الزمن ويرجع الابن في عمر الشيخوخة إلى الهوارية ليطلع على الأرض التي أنجبت والدته ويسلم عائلة الطبيب في الهوارية مخطوط ابن سينا للطب الذي احتفظت به والدته من بين أشيائها الثمينة للدلالة على أنه من أصول عربية، يقيم الأهالي الليالي الملاح على شرف ضيف جاءهم بروائح ابنتهم المعطرة ولو بعد عقود من الزمن.

حدث ذلك بمنطقة «سيدي عامر» في القرن السابع عشر للميلاد، ولكن سكان الهوارية في تونس الواقعة على بعد 80 كلم من العاصمة وأقرب نقطة إلى إيطاليا يذكرون هذه القصة ويضيفون عليها أن الهوارية كرأس بحري يطل برأسه على البحر الأبيض المتوسط بها جبلان مهمان وهما على ارتباط وثيق بحركة القرصنة التي نشطت خلال قرون بالمتوسط، ومن بين الجبلين المذكورين جبل «بوكتانة»، وهذه التسمية على ارتباط بشخص كان يوقد النار في خرقة بالية ويرفعها من أعلى الجبل ليعلم الأهالي أن القراصنة قد اقتربوا من المنطقة وعليهم الاحتراس. أما الجبل الثاني، فاسمه جبل «سيدي جابر» وهو كما أكد الشاذلي الجليدي من سكان الهوارية أحد المدافعين عن المدينة، وقد دفن فيها الكثير من المتصدين للقراصنة على غرار قبر سيدي «علي بن ظافر» وهو ممن تصدوا للقراصنة عندما اختطفوا العروس من وسط أهلها. وتعرف المدينة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط بوجود مئات الأولياء الصالحين يرجح أن يكون معظمهم من بين من دافعوا عن المدينة ضد الغزاة في فترة اشتداد القرصنة في المتوسط.

هذا الجبلان ما زالت لهما الأهمية القصوى، فإذا كانا في السابق قد ساعدا في التصدي للغزاة، فإنهما اليوم من أهم نقاط عبور الطيور المهاجرة من أفريقيا إلى أوروبا.... آلاف الطيور تتجمع سنويا في جبلي بوكتانة وسيدي جابر في انتظار الرياح الملائمة للطيران وعبور المضيق الرابط بين الهوارية التونسية وجزيرة صقلية الإيطالية... ثلاثة طيور يهتم بها سكان الهوارية ويحتفون بها ويقيمون مهرجانا لأحدها على أن لا يتناسوا بقية الصقور التي تمر بالآلاف كل ربيع.

واحتفت المدينة التونسية هذا العام بطائر الساف بإطلاق اسمه على الدورة الرابعة والأربعين لمهرجان الصيد بالصقور الذي أضحى موعدا سنويا لاستقبال المولعين بالطيور.

طائر الساف المعروف في المشرق العربي تحت اسم «الباشق»، وهو من فصيلة البزاة، يعيش في غابات جبلي الهوارية ويعشش هناك مطلع كل ربيع، قبل أن يقرر سنويا الرحيل.

يعود تاريخ المهرجان إلى سنة 1967 بالهوارية المعروفة أيضا باسمها الروماني «أكيلاريا»، أي مدينة الجوارح التي يحتفي سكانها بطائر الساف أحياء لإرث حضاري وثقافي توارثته الأجيال.

وأعاد مهرجان «طيور الساف» الذي اختتم أول من أمس إلى بلدة الهوارية الجبلية المطلة على البحر المتوسط في أقصى شمال شرقي تونس الاهتمام الواسع الذي تستقطبه سنويا بمناسبة المهرجان الذي تنفرد بتنظيمه في إطار خطط الحكومة لدعم السياحة البيئية.

ويعزز مهرجان الساف الصيت العالمي لمدينة الهوارية التي اتخذت من هذا الطائر شعارا لها وتعد من أهم معابر الطيور المهاجرة في العالم.

وتشرف الهوارية على أهم معابر الملاحة الدولية وهو مضيق صقلية وتتميز بمناظر طبيعية خلابة وبمواقع أثرية متعددة، من أبرزها المغاور البونية، بما جعلها وجهة للمولعين بالسياحة البيئية.

وتدفق على المهرجان عدد كبير من الزوار من تونس إضافة إلى سياح جاءوا من عدة بلدان.

ومهرجان الهوارية يحمل اسم الساف والمدينة كلها تحمل شعار الساف للتميز عن بقية المدن التونسية، ويذكر أن هذا الطائر كان مهددا بالانقراض خلال عقد السبعينات من القرن الماضي بسبب الاستعمال المفرط للمبيدات في الأنشطة الفلاحية وتم إنقاذه بعد ذلك بسن قوانين تجرم كل من يقبض على طائر الساف... الطائر الثاني الذي يتم الاحتفاء به هو طائر «البرني» المعروف في المشرق العربي تحت اسم «الباز»، وهو من فصيلة الصقريات. ويرى الشاذلي الجليدي، رئيس جمعية البيازرة بالهوارية، أن تسميته ربما تكون إيطالية، وهو يعيش في الجبال الشاهقة بالهوارية، حيث يقطن طوال السنة تلك الجبال ويعد من بين الطيور النادرة، ويتم سنويا الاتفاق مع وزارة الفلاحة التونسية على الاحتفاظ بأربعة فراخ من طيور البرني على أقصى تقدير لدى هواة الصيد بالبرني، وهذه السنة لم تسمح الوزارة إلا بثلاث فراخ.

حول عشق أهالي الهوارية للصيد عن طريق الساف، قال داود عتيق (39 سنة) إن طائر الساف قد تربى مع العائلة لمدة أجيال متتالية، وأكد أنه يحتل مرتبة الولد الثالث مع ابنيه الاثنين وقد سماه «عزيز»، لمعزته العالية لديه. وعن طريقة تعامله معه، قال داود إن الساف طائر أليف وهو يربط علاقة مميزة مع صاحبه. ويستعمل داود الساف في صيد طائر السمان، وقد فاز بالمرتبة الأولى في مسابقات الصيد التي نظمت على هامش الدورة 43 من مهرجان الساف بالهوارية. أما عن طريقة القبض على طائر الساف، باعتباره أصغر جارح مهاجر يمر من جبال الهوارية في اتجاه أوروبا، قال داود إن أهالي الهوارية يلتجئون إلى طريقتين أساسيتين في القبض عليه: الأولى عن طريق «الغزول»، أي بغزل منطقة عبوره، وانتظار وقوعه فريسة في تلك الخيوط التي لا يراها، أما الطريقة الثانية فهي تعتمد ما يسمى لدى الأهالي «المنصب»، وهي عبارة عن فخ تقليدي ينصب لطائر الساف ويوضع داخله طائر «الزريس» كطعم. وعادة، لا يهدأ هذا الطائر الصغير ويظل يتخبط في الفخ، فيوقع بطائر الساف بسهولة... وقال داود إنه وعائلته طوال عقود من الزمن يفضلون الطريقة التقليدية الثانية... وبعد القبض على طائر الساف، يترك لمدة قد تطول دون أكل ثم يخرج به صاحبه إلى الصيد، وغالبا ما يقع تدريبه على صيد السمان وهو ماهر تمام المهارة في ذلك. ويتناول طائر الساف يوميا ثلاث فراخ صغيرة كوجبات أساسية، يبقى صاحبه مطالبا بها للمحافظة على صلابته ومهارته.

وحول لجوء جانب آخر من أهالي الهوارية إلى طائر البرني (الباز في المشرق العربي) لصيد الحجل، قال شرف الدين الشريف (37 سنة) إن طائر البرني الذي لديه اسمه «ياسمين»، وهو من فصيلة الإناث. ويمكن التفريق بين الأنثى والذكر منذ الصغر، فالأنثى أكبر حجما من الذكر... وقال الشريف إن من يطعمه ويكبر على لديه هو الذي سيأتمر بأوامره عند الكبر، وهو قادر في اليوم الواحد على صيد أكثر من زوج من الحجل... ويسعى الشريف إلى ترضية شهوات البرني بالحمام وطائر البزويش، وأضاف أن تدريبه يكتسي بعض الصعوبة، ولكن المربي الماهر يستطيع أن يتحصل على طائر صيد ماهر.

ويرى الشاذلي الجليدي أن مدينة الهوارية معروفة بالطائرين معا إلا أن توافق فترة الربيع مع إمكانية صيد الحجل عن طريق الساف هو الذي جعل منظمي المهرجان يطلقون اسم «الساف» على المهرجان الذي انتهى أمس. ولا يقل طائر البرني أهمية لدى الأهالي عن الساف، وأشار الجليدي إلى طائر ثالث لا يوجد إلا في تونس وهو طائر البحري. هذا الطائر كان بايات (حكام) تونس يهدونه إلى ملك فرنسا «فرانسوا الأول»، وهو كذلك من فصيلة الصقريات، إلا أن عملية ترويضه مستحيلة. ويلجأ الأهالي إلى الصيد عن طريق طائر البرني في موسم الخريف، في حين أن الصيد بالساف يبدأ يوم 1 مارس (آذار)، ويتواصل إلى غاية يوم 30 أبريل (نيسان) من كل سنة. ويسمى الصيد عن طريق الساف لدى الأهالي بـ«الصيد بالشويرف».

وتضمن برنامج الدورة الرابعة والأربعين للمهرجان الكثير من الفقرات الترفيهية من بينها مسابقات للصيد بالساف وعروض للصيد بطائر البرني بنادي البيازرة وأخرى للفروسية، إضافة إلى تنظيم حفلات فنية. وضم المهرجان معارض للفنون التشكيلية للطيور وعروضا لفرق موسيقية شعبية ومعارض لتقاليد الصيد والطيور. كما أقيمت يوم السبت مسابقة للرماية ببنادق الصيد وعروض للصيد بطائر الساف.

ويستوقف مروضو الساف المعروفين باسم «البيازرة» مع بداية شهر مايو (أيار) من كل سنة أمير السماء لأيام معدودة يجري خلالها ترويض الطائر وتدريبه على الصيد، ليخوض مسابقات في القنص تنظم خلال المهرجان الذي يقترن اختتامه بإطلاق سراح الطيور وعودتها إلى السماء لتبدأ رحلة جديدة نحو الشمال.