شارع شبرا.. من منتجع للأمراء إلى أكثر مناطق القاهرة ازدحاما

أنشأه محمد علي وزينه بأندر الأشجار وفي نهايته شيد قصره الشهير

سكنت المنطقة جاليات شامية تركزت في منطقة جزيرة بدران، حتى إن أهم شوارعها لا يزال يعرف بشارع «قصور الشوام». وسكنتها أيضا جاليات أوروبية كبيرة، خاصة من إيطاليا واليونان («الشرق الأوسط»)
TT

جزء حميم من ذاكرة القاهرة الحديثة يمثله شارع شبرا، أحد أشهر شوارع العاصمة المصرية وأكثرها حاليا ازدحاما بالبشـر والمحال التجـارية والمنشآت. حيث تقدر نسبة الكثافة السكانية فيه بنحو 70 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، مما جعل المصريين يطلقون عليه اسم «شارع الصين الشعبية».

وعلى العكس من ذلك تميزت منطقة شبرا على مدار تاريخها بتنوع حضاري وثقافي وإنساني فريد، فكانت تقطنها الكثير من الجاليات الأجنبية، كما تجاورت في ظلالها الديانات السماوية الثلاث، في مشهد كان عنوانه الحب والتسامح. وبرغم التغيرات التي حدثت في هذه المنطقة؛ فإن من يتجول فيها لا يعدم أن تقع عيناه على شواهد تدله على ذلك الثراء الحضاري الذي شهدته المنطقة، كبقايا لقصر قديم وطراز معماري فريد يبرز في شرفات بعض المنازل، بل ربما تكون محظوظا وتقابل عجوزا من بقايا الجاليات الأوروبية في مصر أبى أن يرحل، وتشبث بالبقاء في هذا الحي الذي ترعرعت فيه ذكرياته وأحلامه، وسنوات شبابه الأولى.

اختلف المؤرخون في أصل كلمة شبرا ومعناها؛ فمنهم من قال إنها كلمة فرعونية تعني المكان، ومنهم من قال إنها كلمة قبطية تعني العزبة، ومنهم من قال إن أصلها كلمة شبرو الفرعونية ثم تحولت إلى جبرو في اللغة القبطية، ومعناها التل، إلى أن أصبح اسمها الآن شبرا، ولكن المتفق عليه هو أن منطقة شبرا كانت أراضي زراعية يسكنها مزارعون بسطاء خارج حدود القاهرة، حتى إنها لم تنضم إداريا إلى العاصمة إلا في منتصف الخمسينات بعد قيام الثورة.

البداية الحقيقية لشارع شبرا تعود إلى عام 1808، حينما اختار محمد علي مكانا على شاطئ النيل ليبني فيه قصرا له للراحة والاستجمام بعيدا عن القاهرة، وعن مركز الحكم في قلعة صلاح الدين. ووقع الاختيار على منطقة شبرا، وبالفعل بدأ تشييد القصر على مساحة 50 فدانا، وأشرف على البناء ذو الفقار كتغدا مشيد قصور محمد علي. ومن أجل الوصول إلى القصر كان لا بد من شق طريق وتمهيده، كان هذا الطريق هو شارع شبرا الذي تم تمهيده وتزيين جانبيه بالأشجار، وخاصة أشجار اللبخ والجميز التي تم غرسها بالتبادل على جانبي الطريق الجديد المسمى شارع شبرا، فصار هذا الشارع متنزها لأهل القاهرة، خاصة مع العناية الكبيرة التي كان يلاقيها الشارع؛ فقد أمر محمد علي بأن يرش الشارع بالمياه يوميا صباحا ومساء لتلطيف حرارة الجو، كما تم تعيين عمال للعناية بالأشجار والنظافة، وأمر محمد علي أن يكون هذا الشارع أعرض شوارع القاهرة في هذا الوقت، وأكثرها استقامة لرغبته في أن يكون مميزا ومبهرا للناس، ويكون نواة لمنطقة جديدة.

جاء قصر محمد علي بعد اكتمال بنائه كتحفة فنية ومعمارية لأهل القاهرة؛ حيث شيد القصر على نمط معماري جديد لم تعرفه مصر من قبل، واختير له طراز معماري تركي، وهو طراز قصور الحدائق الذي شاع وانتشر في تركيا في القصـور المقامة على شواطئ البوسفور وبحر مرمره والدردنيل، ويعتمد تصميمه على حديقة واسعة يحيطها سور ضخم وتتخللها عدة مبان، كل منها لهدف معين ويحمل صفات معمارية تميزه عن باقي المباني. كما أن هذا القصر كان إحدى العجائب لسكان مصر في هذا الوقت؛ لأنه شهد أول نظم الإضاءة الحديثة؛ حيث استدعى محمد علي خبراء من إنجلترا لتنفيذ الإضاءة الخاصة بالقصر، وسعى الأمراء والأعيان لبناء القصور في هذه المنطقة الجديدة سواء للسكن أو للاستجمام.

وفي غضون سنوات قليلة تحولت المنطقة المحيطة بشارع شبرا إلى منتجع للأمراء والطبقة الراقية في مصر لهدوئها وتميزها، وللاهتمام الذي كانت تلقاه من محمد علي. وكانت عربات الدوكار التي يستقلها الأعيان من السمات المميزة لشارع شبرا، وهي سيارات كان يجرها الجياد ويقودها (القمشجي) بزيه المميز اكتمالا لمظاهر الغنى والأبهة. ومن أهم القصور التي شيدت في المنطقة قصر زينب هانم بنت محمد علي، وقصر إنجه هانم زوجة محمد سعيد باشا والي مصر، وقصر طوسون باشا بن محمد علي باشا، الذي لا يزال أحد شوارع شبرا يحمل اسمه حتى الآن، وتحول قصره إلى مدرسة شبرا الثانوية، وكذلك قصر النزهة الذي تحول الآن إلى مدرسة التوفيقية.

وبقي شارع شبرا على جماله وتألقه كطريق مزين بالأشجار حتى عهد الخديوي إسماعيل وقت افتتاح قناة السويس عام1869؛ حيث أمر باقتلاع جزء من الأشجار التي تزين شارع شبرا وإعادة زراعتها في الطريق الموصل للأهرام، الذي أعد لاستقبال الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا التي حضرت إلى مصر للمشاركة في حفل افتتاح قناة السويس، وكذلك في الطريق المؤدي لمقر إقامتها في سراي الجزيرة (فندق ماريوت القاهرة الآن).

وبمرور السنوات توسعت شبرا، وتم شق الكثير من الشوارع، ولكن بقي شارع شبرا هو العصب الرئيسي والعمود الفقري الذي استندت إليه عمليات التوسع والبناء في هذه المنطقة؛ فجاءت الشـوارع الجديدة موازية له ومتقاطعة معه عرضيا، حيث يوازي شارع شبرا شارع الترعة البولاقية، وهو الآن من الشوارع الرئيسية ويتقاطع معه شارع روض الفرج، وقديما كانت منطقة روض الفرج هي ميناء للقاهرة، كما أنها اشتهرت بوجود الكازينوهات وأماكن اللهو، كما كان فيها سوق كبيرة للخضر والفاكهة وأخرى للغلال، وهي المنطقة التي دارت فيها أحداث فيلم «الفتوة» الشهير الذي قام ببطولته زكي رستم وفريد شوقي.

في حين يرجع تسمية شارع الترعة البولاقية لترعة كانت موجودة بالفعل أمر محمد علي بحفرها لري ضواحي القاهرة، وكانت تمتد من النيل في منطقة التحرير مرورا بميدان عبد المنعم رياض حاليا وشارع الجلاء إلى أن تصل إلى منطقة شبرا؛ حيث كانت موازية لشارع شبرا، كما يوازيه أيضا شارع أحمد حلمي، وهو الجد الأكبر للفنان صلاح جاهين، وتشتهر منطقة أحمد حلمي بأن بها واحدا من أشهر مواقف المواصلات في مصر، ويتقاطع معه أيضا الآن شارع خلوصي الذي أصبح منطقة تجارية بالدرجة الأولى لازدحامه بالمتاجر والمولات التجارية.

ويعود الفضل إلى الخديوي إسماعيل في تعبيد الطريق في نهاية شارع شبرا بعد قصر محمد علي؛ حيث تعتبر هذه المنطقة من وقتها إلى الآن أحد مداخل القاهرة الرئيسية للقادم من محافظات الدلتا عبر الطريق الزراعي.

وبمرور الوقت وازدياد البشر والأنشطة في منطقة شبرا، ولربطها بقلب القاهرة تم عمل خط ترام من منطقة العتبة بوسط القاهرة حتى شبرا، وذلك في عام 1903 بواسطة الشركة البلجيكية أول من أدخلت الترام إلى القاهرة في عام 1896.. وبحلول عام 1912 كان يربط شبرا بالقاهرة 4 خطوط ترام من إجمالي 20 خطا للترام في كل القاهرة.

صاحب التوسعات والإنشاءات التي حدثت في منطقة شبرا في تلك الفترة تداخل وتنوع في الحضـارات والثقافات؛ فقد سكنتها جاليات شامية تركزت في منطقة جزيرة بدران، حتى إن أهم شوارعها لا يزال يعرف بشارع «قصور الشوام». وسكنتها أيضا جاليات أوروبية كبيرة، خاصة من إيطاليا واليونان، وتركزت في منطقة أول شبرا من ناحية ميدان رمسيس الآن، كما تواجدت فيها أيضا جالية إنجليزية كبيرة، حتى إن الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا عندما جاءت إلى مصر أصرت على زيارة شارع شبرا للاطمئنان على أحوال الجالية الإنجليزية في مصر. ويعود تسمية ميدان فيكتوريا الواقع في شبرا إليها. ولخدمة هذه الجاليات الأجنبية تم إنشاء الكثير من مدارس الإرساليات الأجنبية في شبرا لتعليم أبناء هذه الجاليات، منها مدرسة «نوتردام دي ذا بوتر»، ومدرسه «بمباستير»، ومدرسة «ماري أوزيليا»، ومدرسة «جان بول»، ومدرسة «الدن بوسكو» الإيطالية.. وغيرها، ومعظم هذه المدارس لا يزال يعمل حتى الآن، ولكن لتعليم أبناء المصريين. كما تركزت جالية فرنسية في المنطقة التي تعرف الآن بشارع البعثة، الذي سمي بهذا الاسم لتمركز بعثة الرهبان الكاثوليك الفرنسيين به؛ حيث أنشأوا كنيسة سان مارك الملحق بها مدرسة نوتر دام ديزابوتر للبنات، ومدرسة القديس بولس للبنين، ومستوصف السبع بنات.

ونتيجة لتنوع الثقافات والديانات في منطقة شبرا نجد بها الكثير من دور العبادة؛ ففي شارع شبرا يقع مسجد الخازندارة، وهو من المسـاجد الكبرى في المنطقة وكان في السـابق مقرا لكلية أصول الدين، ومسجد الفتح بالخلفاوي، ومسجد بديع بروض الفرج، ومسجد نصر الإسلام بميدان فيكتوريا، كما يوجد الكثير من الكنائس، مثل كنيسة سانت تريز التي تسمى باسمها إحدى المناطق هناك، وكنيسـة مار جرجس، وكنيسة العذراء مريم.

ومع التطور الحديث تحولت شبرا إلى ثلاث مناطق: شبرا البلد وشبرا المظلات وشبرا الخيمة التي يرجع اسمها إلى سوق كان يقام في هذه المنطقة، وكان ينصب له الخيام. وأصبحت شبرا من أزحم مناطق القاهرة، وتحول المنتجع الهادئ الذي كان يستجم فيه الأمراء والأعيان إلى واحدة من أكثر المناطق صخبا وشعبية.