الهجرة العالمية: عالم متحرك دوما

تقدر الأمم المتحدة أن هناك 214 مليون مهاجر عبر مختلف أنحاء العالم

ليست هناك قوة في الحياة المعاصرة شديدة الحضور، ورغم ذلك تتعرض للتجاهل، مثلما الحال مع الهجرة العالمية
TT

كان من شأن الانتقاد العنيف الذي وجهه غوردن براون لناخبة «متعصبة» التعجيل برحيله عن منصبه كرئيس وزراء بريطانيا. لكن ما الذي أثار حفيظته رغم شهرته بالهدوء؟ شكواها من المهاجرين. عندما عصف زلزال بهاييتي، بعثت دومينيكان بقوات، بينما أرسل الأميركيون سفنا، بهدف تثبيط المهاجرين المحتملين. أما عضو الكونغرس الذي صاح في وجه الرئيس أوباما قائلا: «أنت كذاب!»، فكان غاضبا بسبب المهاجرين.

أيضا هناك صاروخ حماس الذي سقط في إسرائيل هذا الربيع، وأسفر عن مقتل عامل بإحدى المزارع، وهو أمر ليس فريدا من نوعه فيما عدا أن العامل كان من تايلاند.

في الواقع، ربما ليست هناك قوة في الحياة المعاصرة شديدة الحضور، ورغم ذلك تتعرض للتجاهل، مثلما الحال مع الهجرة العالمية، تلك الأداة المسببة لدمار خلاق يعمل على إعادة تنظيم العالم من جديد. لكن هل تتعرض للتجاهل؟ قد يتشكك البعض في صحة هذه المقولة، بالنظر إلى حجم سيطرة قضية الهجرة على الأنباء وقوة حالة الانقسام التي تخلقها هذه الأنباء. على سبيل المثال، أثارت حملة أريزونا ضد المهاجرين غير الشرعيين، التي وثقت في قانون صدر في أبريل (نيسان)، نقاشات حادة من ملبورن حتى مدريد. بيد أن الهجرة تسهم أيضا في صياغة الخلفية العامة وراء عدد من الأحداث تحتل العناوين الرئيسية، التي قد تبدو غير ذات صلة بعضها ببعض. تعد الهجرة أشبه بقصة خلف القصة، وعنصر تعقيد في قضايا بالغة التنوع مثل الشجار داخل المدارس وجهود فرض العزلة على إيران. (سعيا وراء حشد حلفاء داخل أميركا اللاتينية هذا الشهر، اضطرت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، إلى التشديد على أخطار ظهور طهران مسلحة نوويا، في الوقت الذي تصدت للشكاوى بشأن قانون أريزونا).

حتى الأشخاص الذين يتخصصون في دراسة قضايا الهجرة يواجهون صعوبة جمة في تفهم تأثيراتها بصورة كاملة. مثلا، أوضح جيمس إف. هوليفيلد، المتخصص في العلوم السياسية بجامعة ساوزرن ميثوديست، أنه «سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، تطل الهجرة برأسها في كل مكان، لكن غالبا لا نلحظها».

ما الذي دفع «غوغل» إلى إغلاق مكتبها في الصين، بدلا من الإذعان للحكومة الصينية؟ لا شك تقف وراء ذلك عوامل كثيرة، لكن من بين تلك التي أشار إليها سيرجي برين، أحد الشركاء في «غوغل»، القمع الذي عانته أسرته خلال فترة طفولته داخل الاتحاد السوفياتي قبل أن يهاجروا إلى الولايات المتحدة.

من بين الأصعدة التي تنشط قضية الهجرة عليها بصورة خاصة، وإن ظلت تأثيراتها غير معلنة في معظمها، تمويل المدارس، حيث توصل متخصصون في العلوم السياسية إلى أن الناخبين يبدون احتمالا أكبر لأن يعارضوا خطط الإنفاق إذا لاحظوا أن المستفيدين الرئيسيين هم أبناء المهاجرين (خصوصا غير الشرعيين منهم). وبطبيعة الحال، تترك هذه النتيجة تداعياتها على جميع الأطفال، المهاجرين أو أبناء البلاد.

في هذا السياق شرح دويل مايرز، المتخصص في العلوم الديموغرافية في جامعة ساوزرن كاليفورنيا، أنه «عندما يتوافر لديك قدر أكبر من التنوع، فأنت بذلك تلحق الضعف بالصالح العام».

عكف البروفسور مايرز على دراسة «المقترح 55»، وهي مبادرة طرحت عام 2004 للاستفتاء في كاليفورنيا سعت لتنفيذ مبيعات سندات بقيمة 12.3 مليار دولار بغية التخفيف من تكدس التلاميذ بالمدارس وتحديث المدارس الأقدم. على الصعيد المعلن، صاغ غالبية المعارضين مخاوفهم حول الجانب الاقتصادي، مشيرين إلى أن الحكومة أهدرت المال وتراكمت على عاتقها ديون لا يمكن الاستمرار تحت وطأتها. ومع ذلك ظل الغضب تجاه الهجرة غير القانونية، حسبما أشار أحد المعارضين، «المشكلة التي يتعذر تجاهلها». وكتب في خطاب بعث به إلى «ريفرسايد برس إنتربرايز»، أن ازدحام المدارس «سببه الوحيد سياسة الحدود المفتوحة الحمقاء التي تنتهجها الولايات المتحدة».

وعبر دراسة مختلف الآراء السياسية، توصل البروفسور مايرز إلى أن الناخبين الذين رأوا أن الهجرة تشكل عبئا على كاهل البلاد كانوا أكثر احتمالا بنسبة 9% لمعارضة الإجراء عن الآخرين الذين نظروا إلى الهجرة على نحو إيجابي. وقال: «هذا تأثير كبير، لقد كان كافيا تقريبا لإفشال الاقتراح». يذكر أن المقترح جرى تمريره بصعوبة بالغة بنسبة بلغت 50% فقط من الأصوات.

الملاحظ أيضا أن الهجرة عجلت بالانقسام الحاد داخل صفوف الحركة العمالية الأميركية. عام 2005، رحلت ست نقابات من تحت مظلة اتحاد «إيه إف إل - سي آي أو» لتشكيل اتحاد منافس باسم «التغيير من أجل الفوز» (تشينغ تو وين)، (ضمت النقابات المنشقة الاتحاد الدولي لموظفي الخدمات).

من الناحية الظاهرية، جرى التشاحن في معظمه حول وتيرة التنظيم، مع تعهد المجموعة المنشقة باتخاذ خطوات أقوى لضم أعضاء جدد. إلا أن المنشقين ضموا أيضا عددا أكبر من المهاجرين من أصحاب الأجور المنخفضة إلى عضويتهم.

ومثلما ذكر دانييل بي. كورنفيلد، العالم المتخصص في القضايا العمالية في جامعة فاندربيلت، فإن الوضع الهامشي (وأحيانا غير القانوني) للمهاجرين خلق جمهورا انتخابيا يناصر اتخاذ توجه أكثر قوة. وقال: «لا أعتقد أنه كان انقساما حول الهجرة، لكن الهجرة صاغت شكل الانقسام».

وترك هذا الانقسام بدوره تداعيات تجاوزت الحركة العمالية، حيث أشارت جانيس فاين، أستاذة العلوم السياسية بجامعة روتغرز، إلى أن «التغيير من أجل الفوز» لعبت دورا مهمّا (واعتبره البعض حاسما) خلال المراحل الأولى من الحملة الرئاسية لأوباما.

وأضافت فاين: «لو كانوا داخل الكيان البيروقراطي الأوسع، كانوا سيجابهون صعوبة أكبر في إعلان تأييدهم مبكرا له وجمع الأموال لصالحه».

أحيانا، يطلق منظرون على حركة الأفراد الموجة الثالثة من العولمة، بعد حركة السلع (التجارة) وحركة المال (التمويل)، اللتين بدأتا القرن الماضي. إلا أن التجارة والتمويل يتبعان قواعد عالمية ويخضعان لمؤسسات العالمية، وهي منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين. في المقابل، لا تتوافر جماعة مناظرة بالنسبة لـ«الهجرة». وبذلك نجد أن أكثر أنماط التحرك شخصية وصعوبة هي أكثر التحركات افتقارا إلى التنظيم. تتولى كل دولة وضع القواعد الخاصة بها (وغالبا ما تتجاهلها)، بحيث يتم تنظيم من يفد إليها وفترة إقامته بها وما الحقوق التي يتمتع بها.

في الوقت الذي تسبب التجارة والتمويل العالميين توترا - يرى البعض أنه لا يقل عما تسببه الهجرة - فإن هذا التوتر يأتي في صور أقل وضوحا. مثلا، فإن قميصا مصنوعا في المكسيك قد يكلف عاملا أميركيا وظيفته. وقد ينتقل عامل مكسيكي للسكن إلى جوارك ويحتاج إلى إلحاق أطفاله بمدرسة عمومية وأن يتحدث الآخرون إليه بالإسبانية.

من بين الأسباب وراء القوة التي تبدو عليها الهجرة صعودها على نحو غير متوقع، فحتى وقت قريب، سبعينات القرن الماضي، لم تبد الهجرة على قدر كبير من الأهمية لدرجة أن مكتب الإحصاء السكاني الأميركي قرر التوقف عن سؤال الأفراد الذين يتعامل معهم عن مكان مولد آبائهم وأمهاتهم. الآن، ينتمي ربع المقيمين داخل الولايات المتحدة دون الـ18 إلى المهاجرين أو أبناء المهاجرين.

وتقدر الأمم المتحدة أن هناك 214 مليون مهاجر عبر مختلف أنحاء العالم، بزيادة قدرها 37% تقريبا خلال عقدين. وقد تزايدت أعداد المهاجرين في أوروبا بنسبة 41% وبنسبة 80% في أميركا الشمالية. في هذا الصدد، أعرب غاري بي. فريمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تكساس، عن اعتقاده بأن «هناك قدرا أكبر من الحركة في الوقت الراهن عن أي فترة أخرى في تاريخ العالم».

وفجأة تحولت أشهر مصادر المهاجرين في أوروبا - أيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا - إلى نقاط جذب للهجرة، مع انتخاب أيرلندا لرجل نيجيري المولد كأول عمدة من أبناء البشرة السمراء بها عام 2007.

باعتبارهم ورثة ماضٍ مرتبط بالهجرة، قد يتمتع الأميركيون بميزة في عصر الهجرة، فرغم الخلاف الذي تثيره القضية هنا، تبقى قدرة الولايات المتحدة على استيعاب المهاجرين موضع حسد الكثير من الأوروبيين (بما في ذلك من لا يميلون عادة إلى حسد واشنطن). ومع ذلك تبقى التحديات القائمة اليوم مختلفة عن تلك التي شهدها الماضي، حيث توجد خمسة اختلافات على الأقل في هذا العصر أسهمت في تضخيم تداعيات الهجرة.

أولها: النطاق العالمي للهجرة، ذلك أن تحركات الأفراد خلال القرن الـ19 كانت في معظمها عبر أطلسية. أما الآن فيعمل نيباليون بمصانع كورية ومنغوليون في براغ. حتى داخل الولايات المتحدة، انتشر المهاجرون عبر عشرات «المداخل الجديدة» التي لم تألف مهاجرين من قبل، من أورلاندو إلى سولت ليك سيتي.

ثانيا: المال، الذي لا يساعد في إعالة الأسر التي تركها المهاجرون خلفهم فحسب، وإنما يعزز أيضا الاقتصاديات الوطنية، حيث يبعث المهاجرون إلى أوطانهم 317 مليار دولار سنويا، ما يعادل ثلاثة أضعاف إجمالي المساعدات العالمية. وفي سبع دول على الأقل، تشكل الحوالات أكثر من ربع إجمالي الناتج الداخلي.

ثالثا: إضفاء الصبغة النسوية، حيث بات قرابة نصف المهاجرين على مستوى العالم الآن من النساء، وقد تركت الكثير منهن أطفالهن وراءهن. وكان من شأن هجرتهن بحثا عن الرزق تغيير ديناميكيات الأسرة عبر دول العالم النامي. وفي الوقت الذي تمكن الهجرة للبعض فإنها تعرض البعض الآخر للخطر، مع تحول الاتجار في البشر لأغراض جنسية إلى مصدر قلق عالمي حاليا.

رابعا: التقنية، حيث بات بإمكان مربية في مانهاتن الآن التحدث إلى طفلها في المكسيك والتصويت في الانتخابات المكسيكية ومشاهدة برامج التلفزيون المكسيكي.

ورغم أن هذا يشكل أمرا إيجابيا في نظر البعض، فإنه يثير قلق البعض الآخر باعتباره يعوق الاندماج. في عصر الجهاد العالمي قد يتحول مثل هذا الأمر أيضا إلى تهديد أمني. على سبيل المثال، قال المهاجر الباكستاني الذي اعترف الأسبوع الماضي بمحاولة تفجير تايمز سكوير إن محاضرات جهادية وصلته من اليمن عبر شبكة الإنترنت.

خامسا: يتمثل العامل الأخير الذي يعزز تداعيات الهجرة الحديثة في الاعتقاد بأن الحكومات ستسيطر عليها. يذكر أنه في أميركا على مدار القرن التاسع عشر لم تكن هناك عوائق قانونية أمام الدخول إلى البلاد. وكانت تلك قضية خلافية، لكن الحكومة لم تتعرض لكثير من اللوم. ينتظر الكثيرون من الحكومات الغربية الإبقاء على تدفق التجارة وحركة السياحة واحترام الحقوق العرقية، في الوقت الذي تغلق حدودا في مساحة صحراء أريزونا والبحر المتوسط. وتتسبب إخفاقات هذه الحكومات - وهي إخفاقات جلية وإن كانت حتمية - في إضعاف الثقة في قدرات السلطات الفيدرالية.

في هذا السياق، قال ديمتري باباديمتريو، أحد مؤسسي «معهد سياسات الهجرة»، وهي مجموعة بحثية في واشنطن: «إن هذا يخبر الناس بصورة أساسية أن الحكومة عاجزة عن الاضطلاع بمهمتها. ويخلق ذلك خطابا مناهضا للحكومة كما نرى ويثير غضب الناس».

ورغم ذلك تبقى الدول الثرية التي يتسم هرمها السكاني بالتقدم في العمر بحاجة إلى عمال. كما أن أبناء الدول الفقيرة في حاجة إلى فرص عمل. ويعني التفاوت العالمي المتصاعد أن المهاجرين بات أمامهم ما يربحونه أكثر من أي وقت مضى من وراء العمل في الخارج. كما أنه من العسير إغلاق شبكات الهجرة، فحتى تردي الأوضاع الاقتصادية إلى أسوأ حالاتها منذ 70 عاما أدى إلى تباطؤ، وليس وقف، نمو الهجرة. ومن المحتمل أن تستمر الهجرة في التنامي من حيث الأعداد والتأثيرات.

ويطلق بعض العلماء على قضية الهجرة في عصرنا الراهن أنها تحدٍّ لنظام السيادة الوطنية الذي أقرته معاهدة سلام ويستفاليا الموقعة عام 1648. بالنظر إلى الجدار الجاري بناؤه على امتداد الحدود مع المكسيك، لا يبدو أن الدول الوطنية تبتعد عن هذا النظام، في وقت تفعل فيه ذلك شعوبها على نحو متزايد.

* خدمة «نيويورك تايمز»