كيوكو إبيه.. فنانة يابانية تستلهم أسرار الحياة من محبة الورق

تصنع منه ستائر ملونة وفواصل ووحدات إضاءة

كان الورق يصنع يدويا كحرفة امتهنتها غالبية العائلات اليابانية لقرون كثيرة («الشرق الأوسط»)
TT

رحلة عشق شيقة مع عالم الورق قطعتها الفنانة اليابانية كيوكو إبيه منذ سنوات طفولتها، سواء بالرسم عليه، أو التعامل معه كخامة ووسيط فني لتكوين وتشكيل اللوحات، لكن مع مرور السنوات وتراكم الخبرة والتجربة، تحولت علاقة كيوكو بالورق إلى علاقة روحانية، فاكتشف في نسيجه أسرار الفن والحياة.

ومن الأجواء العقائدية اليابانية والتراثية قررت كيوكو إبيه إحياء هذه الحرفة وتقديمها بشكل معاصر من خلال إقامة الكثير من المعارض الدولية في أكثر من 20 دولة في خمس قارات، وكذلك ورش عمل لتحويل حرفة صناعة الورق إلى شكل من أشكال الفنون، والتعامل معه على أنه فن خاص بذاته وليس مجرد أداة.

تعتبر كيوكو الورق عنصرا جماليا وفنيا متميزا، فقد يظهر في صورة لوحات فنية أو ستائر ملونة مصنوعة من الورق المبروم أو تكوينات تستخدم في التصميمات الداخلية كوحدات إضاءة أو الفواصل أو الأبواب، وذلك بإضافة بعض الألوان المساعدة لإظهار جمال هذا الورق مع إمكانية الاستعانة بورق قديم يعود أحيانا إلى أكثر من 3 آلاف عام وهو ورق الواشي (WASHI) المصنع يدويا، الذي يعتبر مقاربا لورق البردي، ولنوع من الورق استعانت به في أعمالها الأخيرة، وجاء ممزوجا بعبارات وأرقام وكلمات من وثائق قديمة للبلدية كانت ترصد المحاصيل والدواب، وأخرى رصدت عادات وتقاليد لحياة يومية لعائلات عملت في حرفة صناعة الورق منذ أكثر من ألف عام.

جهود كيوكو دفعت حكومتها اليابانية لاختيارها مستشارة التبادل الثقافي لها، وذلك بعد أن ذاع صيتها عالميا في إحياء حرفة صناعة الورق التي اشتهرت بها كل من الصين واليابان. وقد اختارت كيوكو مصر لإقامة أحدث معارضها بعد الكثير من المشاريع والمعارض التي قامت بها مؤخرا في الولايات المتحدة الأميركية، فهي تعتبر مصر بلدا أذهل العالم باختراعه ورق البردي، كما أن تشابه العادات والتقاليد المصرية بنظيرتها الموجودة في الحضارة اليابانية القديمة دفعها لاختيار مصر لتكون مقرا لأحدث معارضها الذي اختارت له اسم «hogosho» وتعني الوثائق القديمة.

تكسر أعمال كيوكو المفهوم التقليدي للمعارض، ليس فقط من حيث اختيار الخامة، بل وفي أسلوب عرض تلك الأعمال فهي تستعين بمساعديها في عرض محتويات أعمالها داخل المعرض، حيث تستطيع وأنت تجوب أروقة معرضها أن ترصد الخطوات الكاملة للعمل الفني منذ بداية عجن الورق القديم و«فرده»، وأحيانا «برمه» وتجفيفه وإضافة الألوان إليه ليخرج في النهاية وحدة تشكيلية قائمة بذاتها ووسط أجواء روحانية تمنحك العبور إلى عوالم سابقة كانت بطلتها تلك الحرفة.

وبرقة وحياء الأسلوب الياباني بدأت هذه الفنانة حديثها لنا مستندة إلى عبارة قالها أحد قدامى الفلاسفة وصف فيها أسلوب حياة اليابانيين الفريد في الماضي بأنه «ثقافة مصنوعة من الورق والخشب»، حيث كان الورق يستخدم في أغراض متعددة كصناعة المنسوجات، وبناء البيوت المصنوعة من خشب الـ«SHYOJI» والمغطى بورق الـ«FUSUMA» سواء في الأبواب أو النوافذ.

وبينت كيوكو أن أغلب اليابانيين عادة ما كانوا يرتدون ملابس مصنوعة من الورق أو الجلد السميك الناعم، وكان هذا الورق يصنع يدويا كحرفة امتهنتها غالبية العائلات اليابانية من أجداد وآباء وأمهات وأحفاد لقرون كثيرة خلال المواسم غير الزراعية على سفوح الجبال، حيث زراعة الأرز لم تكن ممكنة، حتى كان من الشائع في ذلك الوقت دفع الضريبة في صورة رزم من الورق.

إنها تستلهم الإبداع في أعمالها من ثقافة أصوات البشر واستحضار روح الشعب منذ أكثر من مائتي عام، خصوصا وهى تقوم بأولى خطوات صناعة هذا الورق منذ استخراجه من لحاء الأشجار أو إعادة تدويره من مخلفات الورق القديم، مرورا بعجنه ثم فرده على هياكل من «الفايبر»، ثم إضافة الألوان إليه في تصميمات تعبر عن شيء ما لتمزجه في النهاية بكتابات قديمة غزلت عن طريق فرشاة ناعمة بحبر «السومي».

كيوكو تستطيع الشعور بهذه الأجواء وهى تتنفس ببطء أمام عينيها، كما أنها تستدعى وهى تقوم بهذه الخطوات حياة ما يقرب من 500 عائلة يابانية ما زالت تحتفظ بتقاليد صناعة ورق الـ«WASHI» وروح من سبقوهم، شديدة الرقة والشفافية والحساسية، والقادرة على البقاء على قيد الحياة لأكثر من ألف عام.

وبقصاصات من دفتر عتيق ترك الزمن بصماته عليه منذ مائتي عام تطعّم الفنانة أعمالها لتصبح دليلا على وجود روح خفية من حياة الماضي تتنفس بهدوء داخل الورق المصنوع يدويا لتقع في النهاية عين من ينظر إليها على جمال يكاد يكون منسيا بين ظلال ونسيج ولعها بفن الورق.