«فن الواو».. ينعش ذاكرة الربابة في صعيد مصر

نشأ على يد قاطع طريق وصار سلاحا لمقاومة المماليك والأتراك

يستمد فن الواو أهميته من كونه فنا شفاهيا، يتوارثه الشعراء عن الأسلاف كنمط تعبيري («الشرق الأوسط»)
TT

في صعيد مصر، لا شيء ينعش ذاكرة الناس، ويصنع البهجة والفرحة على شفاههم، أكثر من العزف على الربابة، والرقص على أنغام الموال، والتغني بالسير والملاحم الشعبية. وفي حفلات السمر والمواسم الشعبية يتربع «فن الواو» على ساحة الإنشاد والطرب، ويتبارى الجمهور مع المنشد المؤدي في الغناء، وتخمين ما ستنتهي به خاتمة المقطوعة الشعرية التي يتغنى بها، وهم يتمايلون مع إيقاعات الربابة جسدا وروحا.

يستمد فن الواو أهميته من كونه فنا شفاهيا، يتوارثه الشعراء عن الأسلاف، كنمط تعبيري، ويجددون في طرائقه وأشكاله، مع الحفاظ على قالبه الفني. وسمي بهذا الاسم لكثرة واوات العطف به، كما يعتمد اللغة الشعبية كأداة للتشكيل الفني مع الإيقاع الموسيقي المحدد. وانتشر فن الواو في صعيد مصر، وقد تميزت به محافظة قنا عن غيرها من المحافظات المصرية، وازدهر فن الواو في عصر المماليك والأتراك، وكان كثيرا ما يلجأ إلى التورية والكلام غير المباشر، حتى لا يقع فريسة للرقابة الصارمة التي كانت مفروضة على الأهالي في عصور الاستبداد، فكان هذا الفن منحازا للجماهير ضد سيوف الحكام، وقد ظهر على يد أحمد بن عروس المولود في عام 1780 أيام حكم المماليك لمصر، في قرية بمدينة قوص المصرية، عرف عنه أنه كان قاطعا للطرق في بدايته حياته، وكان مشحون الصدر بالحقد على المماليك الحكام والأغنياء البخلاء، وكان دائم السطو عليهم هو وعصابته، واشتهر بقوة بأسه وصلابته، وقلب كالصخر لا يلين، وكانت الناس تهابه وتخاف من بطشه، لكن ابن عروس لم يستمر كثيرا على هذا الوضع، بل تحول بعد ذلك إلى إنسان زاهد في الدنيا، بعد حادثة عروس الهودج، التي كانت سببا في تسميته بابن عروس. حيث يروى أنه ومعه لصوصه، أغاروا على قافلة في الصحراء، وسلبوا كل ما فيها، إلا هودجا على جمل، كانت به صبية عروس فائقة الجمال، فتن بها ابن عروس، وطلب أن يتزوجها، لكنها اشترطت عليه أن يكف عن السرقة، ويعود للطريق المستقيم، وقد كان لها ما أرادت.

وما زالت مربعات ابن عروس خالدة حتى يومنا هذا، وقد بلغت مخطوطاته 74 مربعا من أروع ما كُتب في فن الواو، ومن أجمل مربعاته التي لا تزال تتردد على الألسنة حتى الآن، وخاصة عندما يجد الإنسان نفسه في كرب وضيق من ظلم وقع عليه:

* «لابد من يوم معلوم - تترد فيه المظالم

* أبيض على كل مظلوم - أسود على كل ظالم».

هذه شطرات أربع تكون بيتين شعريين من بحر «المجتث»، وهو بحر شعري له نسق موسيقي طرب له الشعراء المحدثون، فأكثروا من نظمه. وقد اسُتخدمت هذه المربعات في المسلسل المصري الشهير «ذئاب الجبل».

واشتهرت محافظة قنا عن أي مكان آخر باحتضانها لهذا الفن دون غيرها؛ لأنها كانت منذ الفتح العربي الإسلامي لمصر محط الرحال لقبائل عربية نازحة من شبه الجزيرة العربية، مما أدى إلى ظهور أثر اللهجات العربية على اللسان القناوي، فجعله أقرب إلى العربية من غيره من حيث المفردة وطريقة نطقها، فكان لا بد أن تتأثر طرائق القول الشعري بالفنون القولية الواردة، ومنها شكل القصيدة العربية.. ومن أشهر شعراء هذا الفن من قنا على طريقة ابن عروس، علي النابي، عبد الستار سليم، عادل صابر، محمد النوبي، خالد حلمي الطاهر، صفوت البططي، محمد أمين خربوش.

وعن فن الواو يقول الشاعر عادل صابر أمير، وهو صاحب عدد من الدواوين، أشهرها «سؤال الليل»، «الضمير»، «عودة بالليالي»: «فن الواو هو ذلك الفن الخالد العظيم الذي يضرب بجذوره في أعماق الجنوب، وهو فن خالد خلود النيل، وهو فن شعبي، يعتمد على الحكمة الشعبية البسيطة سهلة الحفظ، وهو من أشهر الفنون التي صاحبت الربابة في أنينها وشجنها، وكأن الربابة قد خلقت من أجل هذا الفن، كما أنه من أفضل الفنون التي تعبر عن آلام وأمال البسطاء والكادحين، أو كما يقول المثل الصعيدي «جاي على الوجع».

يتكون فن الواو، أو كما يسميه البعض فن المربع، من أربع شطرات متبادلة القافية، أي أنها تسير على هذا النحو «أ - ب - أ - ب»؛ فالشطرتان الأولى والثالثة تكونان من قافية واحدة، والثانية والرابعة تكونان من قافية مختلفة، مثل قول ابن عروس:

* «إمشي مع الدرب لو دار - واوعاك تلوف ع المداخل

* وابعد خطاويك عن دار - لو تلمح الهلف داخل».

ويستكمل صابر بقوله: «هو فن يعتمد على التكثيف الجمالي في قوافيه، وهو يتكون في عرف القوالة (منشدي فن الواو) من أربع حركات ثنائية (العتب والطرح والشد والصيد)، والعتب هو وقوف الشاعر على أعتاب بحر الوزن، ثم الطرح، وهو إلقاء قوافيه، ثم الشد، أي شد ما صاده من كلمات، ثم الصيد، وهو النهاية، وهذا ما يوضح أن أهالي قنا كانوا يأخذونه كنوع من التحدي والارتجال في مسامراتهم ومنتدياتهم، كما أن الفضل يرجع إلى الشاعر عبد الستار سليم، الذي قام بإحياء هذا الفن، بعد أن كان مقتصرا على فئة معينة، وهي فئة العجائز، ليخوض غماره المثقفون والمتعلمون وحملة المؤهلات العليا».

ومن أشهر المناسبات التي يستخدم فيها فن الواو «الزواج، وسبوع المولود، والاحتفال بالموالد، والحزن على المتوفى»، وحفاظا على هذا الفن من الضياع والاندثار قال الشاعر عبد الستار سليم: «لقد قمت بدراسة فن الواو، وأقوم بإعداد موسوعة خاصة لتسجيله، لأنه كاد أن يندثر مع انتهاء الحكم التركي، وسوف تكون الدراسة في أربعة مجلدات، صدر منها الأول في الدراسات الشعبية التابعة لقصور الثقافة».

الطريف في فن الواو أنه لم يقتصر على المسلمين في صعيد مصر، بل برع فيه بعض الشعراء المسيحيين، أمثال الشاعر صفوت البططي، الذي قام بعمل مناظرة بين شعر محمود عبد الوهاب الأبنودي من فن الواو، وبردة الإمام البوصيري المخصصة لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مؤكدا أنه لم يجد أي حساسية في ذلك.

وكشف صفوت عن أن الشعر الشعبي، والموال القناوي الرباعي، يختلف عن الموال السباعي لأبناء دلتا مصر، ويتميز الواو بتكثيف الجمل ورقي الأدوات والألفاظ التعبيرية، ويردده العامة والبسطاء، ويزيدون عليه بتلقائية كلمات في الغزل والحكمة، كما أن كلمات الواو تنتشر في المناسبات المختلفة، من نماذج فن الواو، يقول الشاعر عبد الستار سليم الملقب بـ«ملك الواو»:

* «يا رايح الحج بالله - بوس لي تراب المدينه

* والقبر بالدمع بلاه - قول له يا طه نادينا».

أما الشاعر عادل صابر (أمير الواو)، فيقول:

* «أول ما ينطق لساني - أوصف نبينا وسماته

* طه جميل المعاني - زي القمر في سماته».

ويقول الشاعر عبده الشنهوري

* «باين لي عصر الهمج عاد - يزحف ولا حد داري

* من غير مناسبة ولا معاد - جا الغريب يسكن في داري» أما الشاعر محمد خربوش

* «فيه مخ كد الفشاره - وأهي أجسام زي الفحول

* وفيه ناس تفهم في إشاره - وأهي ناس تفهم في حول».

ولم يقتصر فن الواو على فئة سنية معينة، كما يدعي البعض، فقد أطلق عليه بعض النقاد «فن العجائز»، لكن نرى من خلال المربعات الجميلة لهذا الفن أنه تحدث عن الشباب ومشكلاتهم وأفراحهم.

* «لا تذل نفسك لإنسان - في باطنه ليك سوادي

* صده وخليك منصان - عنه ولو كان يعادي».

ويعد فن الواو من أكثر الفنون التي أظهرت الجوانب الغامضة في حياة وتاريخ صعيد مصر، خاصة النواحي السياسية، والغزل العفيف بالأنثى، كما دخله الكثير من المعاني والمصطلحات الجديدة، ومنها مصطلحات أجنبية، في دلالة على حيوية هذا الفن، ومقدرته على هضم وتمثل شتى أنواع الثقافات والمعارف الإنسانية.