رسومات الحج.. فن فطري يصارع الزمن

تجسد نفحات الأماكن المقدسة على جدران البيوت

كان الحاج بعد عودته من أداء فريضة الحج يقوم باستئجار «رسام محترف» لكي يرسم وينقش له تفاصيل الرحلة المقدسة التي قضاها في بيت الله الحرام على جدران المنزل («الشرق الأوسط»)
TT

رسومات الحج.. فن فطري خالص تميزت به الكثير من القرى المصرية، وبخاصة في صعيد مصر، حيث يعكس هذا الفن مدى الفرح برحلة الحج، التي تتحول إلى طقس شعبي يشارك فيه الأهل والأقارب والأصدقاء.

وعلى الرغم من أن هذا الفن أصبح يصارع الزمن وسط غابة البيوت الحديثة، فإن ملامحه لم تندثر كليا، فلا تزال بعض القرى المصرية تحتفي به على جدران بيوتها البسيطة، وبخاصة أن المصريين من أكثر الشعوب حبا للأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويكنون لها منذ الفتح الإسلامي لمصر حبا خاصا، وقد عبروا عن هذا العشق بالرسومات التصويرية التي ينقشونها على جدران منازلهم بعد عودتهم سالمين من رحلة الحج إلى ديارهم وأهلهم، فهم يقومون برسم ونقش الأماكن المقدسة لكي تظل أمام أعينهم يتذكرون من خلالها الرحلة المقدسة التي قاموا بها إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم.

ومن أهم رسومات الحج التي نراها منقوشة على الحوائط «الكعبة المشرفة، والروضة الشريفة، وصورة تخيلية للبراق، ومقام سيدنا إبراهيم، والحجر الأسود، ووسيلة المواصلات سواء طائرة أو باخرة، وقديما الجمل».. لكن تبقى الكعبة المشرفة هي العنصر الرئيسي لهذه الرسومات، ولم يقتصر الأمر على الأشكال فقط، بل إن هناك عددا من الجمل المشهورة التي لا يخلو منها أي بيت عليه هذه الرسومات، ومن أهم هذه الجمل، قول الله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» [الحج: 27]، والحديث الشريف: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»، رواه البخاري (1196) ومسلم (1391)، وبعض الأقوال مثل «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

ومن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انتشار هذا الفن في الفترة السابقة، صعوبة رحلة الحج من مصر إلى بلاد الحجاز، ومحاولة تسجيل وقائعها لكي تكون دليلا أمام الناس على اجتياز الشخص هذه الرحلة المقدسة والشاقة، والفخر بالحصول على لقب «حاج»، وهناك سبب آخر يخص أبناء الصعيد، وهو كون هذه الرحلة الوحيدة للسفر خارج إطار الدولة.

وقد كان لكل قرية فنانوها المعدودون الذين يجيدون رسم وتصوير هذه النقوش، ولكل منهم أسلوبه الخاص الذي يتفرد به عن غيره في هذا الفن، فمنهم من كان يكثر من كتابة بعض الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية، أو الأقوال المأثورة باستخدام الخطوط المختلفة، ومنهم من يكثر من استخدام الرسومات والمناظر على حساب الكلمات، وقد كان لرسام هذا الفن الجميل أهمية خاصة في صعيد مصر فكانوا يكرمونه ويغدقون عليه الأموال من قبل الرجال والنساء على حد سواء.

وكان الحاج بعد عودته من أداء فريضة الحج يقوم باستئجار «رسام محترف» لكي يرسم وينقش له تفاصيل الرحلة المقدسة التي قضاها في بيت الله الحرام على جدران المنزل لأسباب كثيرة. وحسبما يروي الحاج حمدي محمد حسن، فإن «الحاج أو المعتمر يعبر بها عن فرحته بالرحلة المقدسة، ولكي يعرف المارون أمام بيته أن صاحب الدار قد أدى فريضة الحج، ولكي تظل معالم الرحلة خالدة في ذهنه ما بقي على قيد الحياة».

ويذكر الحاج حمدي أنه عندما ذهب إلى الحج أوصى أولاده وأهله بإعادة طلاء البيت باللون الأبيض، وتزيين جدرانه من الداخل والخارج برسومات الحج، فهذه الرسومات - على حد قوله - تحمل نفحات الأماكن المقدسة، كما أنها تذكره بجو الرحلة الروحاني البديع.

وقد اهتم الباحثون الأجانب بهذا الفن الفطري الذي اشتهرت به مصر عن سائر البلدان العربية، وكان للصعيد الاهتمام الأكبر به عن الوجه البحري في مصر، فخلال جولاتهم بالصعيد لفتت أنظارهم الرسومات المنقوشة على معظم البيوت الصعيدية، حتى إن بعضهم قام بتأليف كتب عن رحلة الحج المصرية، فهناك كتاب يحمل عنوان «لوحات الحج»، صدر عن قسم النشر بالجامعة الأميركية في القاهرة، من تأليف الكاتبة آفون نيل والمصور آن باركر في سبتمبر (أيلول) 2009، وكتاب آخر للمستشرق الإنجليزي إدوارد لين يحمل عنوان «المصريون المحدثون»، ذكر فيه أن المصريين كانوا يقومون بتزيين بيوتهم برسومات الحج في القرن الثامن عشر، فقبل عودة الحاج بثلاثة أيام يقومون بتلوين الباب والحجارة باللونين الأبيض والأحمر بطريقة بدائية، وكان يتم ذلك بناء على طلب مسبق من الحاج لأهله قبل سفره. ويشير إلى أن جذور الحضارة الفرعونية وتأصلها في نفوس المصريين هي التي أدت إلى انتشار هذا الفن، حيث تحول البيت الجنوبي إلى صورة مصغرة من معبد فرعوني، فالمصري القديم كان يستخدم الأدوات البسيطة في الرسم على المعابد من ريشة وجبس وألوان وجير، وهى الأدوات نفسها التي يستخدمها الفنان الشعبي في رسومات الحج، وهي رسومات استلهمت في الحقب التاريخية الماضية مثل العهد المملوكي والعهد العثماني.

أما الدكتور محمد سوداني المعيد بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، فيرى أن «جداريات الحج فن مصري فطري وامتداد للفن المصري القديم (جداريات المقابر والمعابد) وهو لا يرتبط بدين معين، فالفراعنة استخدموا هذه الرسومات والنقوش بكثرة داخل المقابر للتعبير عن رحلة البعث والخلود، واهتم به الأقباط من خلال الرسومات الموجودة على جدران الكنائس التي تسمى بـ(جداريات الفرسك(، والتي استخدموا فيها ألوان الأكاسيد الطبيعية المختلطة بزلال البيض. كما استخدموا في البداية معظم الخامات المستخدمة في العصر الفرعوني، ومن أهم الأشكال القبطية (الصلبان، والكهنة، ورحلة السيد المسيح، ورحلة الحج إلى الأديرة والكنائس)، ثم انتقل هذا التراث إلى العصر الإسلامي الحديث، فبدأ الإنسان المسلم يرسم الرحلة المقدسة للحج وما تحمله من رموز مثل (الكعبة، وصورة تخيلية للبراق، والطائرة أو الباخرة، وغار حراء، وغار ثور، والجمل أو الحصان في فترات متقدمة)، وأحيانا يقوم بعض الأشخاص برسم صورهم الشخصية على جدران المنازل بعد تأديتهم فريضة الحج، ويحرص معظم المصريين على تسجيل الرحلة على جدران المنازل لأنهم يعتبرونها مدعاة للفخر والتميز بتأديتهم فرض الله وحصولهم على لقب (حاج)، وهو اللفظ الذي له مكانة خاصة لدى المسلمين».

ويرى الدكتور سوداني أن الفترة الحالية هي الأكثر تدميرا لرسوم الحج حتى إنها اقتصرت على ذكر اسم الحاج وسنة الحج على ما بقي من الحوائط، ولعل من أهم الأسباب وراء اندثار هذا الفن، هو الانفتاح الاقتصادي الذي حدث للأهالي بعد ذهابهم إلى الخليج وتدميرهم البيوت الطينية وبالتالي حرصهم على بناء منازلهم على الأنظمة الحديثة التي تعتمد على الإسمنت والمواد الحديثة، ومن الأسباب أيضا البعد عن روح الثقافة المصرية والابتعاد عن الجذور، حتى إن رحلة الحج نفسها أصبحت عادية. كما يرى أنه من الواجب على الهيئات الثقافية والباحثين عن التراث المصري محاولة توثيق ما تبقى من جداريات الحج، والتشجيع على إعادة إحيائها مرة أخرى كطقس مهم من الطقوس الشعبية.