المصور الفوتوغرافي الفرنسي كاميل سيلفي أول من أدخل مفهوم شبكات اجتماعية

تزامنت فترة ذروة نجاحه مع بدايات صناعة الأزياء والموضة

من الصور الفوتوغرافية المعروضة في «ناشونال بورتريه غاليري»
TT

في عام 1859 رحل المصور الفوتوغرافي الفرنسي كاميل سيلفي عن باريس سعيا وراء حرية العمل والتعبير النسبية التي تمتعت بها لندن في منتصف العهد الفيكتوري. وعلى الرغم من أنه حتى ذلك الوقت كان يعتبر نفسه فنانا بمجال الفنون الجميلة، فإنه نجح داخل لندن من إقامة شركة تجارية ناجحة بمجال توفير صور لبطاقات التعريف الشخصية. وقد كانت هذه البطاقات على درجة من الشعبية والانتشار كوسيلة لتكوين شبكات اجتماعية خلال الحقبة الفيكتورية مثلما الحال مع موقع «فيس بوك» حاليا. وتشير التقديرات إلى أن مليون صورة مطبوعة على الأقل التقطها سيلفي كان يجري تداولها في وقت ما.

معرضه الحالي «كاميل سيلفي: مصور الحياة الحديثة» الذي يستضيفه «ناشونال بورتريه غاليري» يعتبر من المعارض النادرة من نوعها، حيث يتولى تعريف الجمهور البريطاني بفنان عظيم ينتمي إلى القرن التاسع عشر على الرغم من أن اسمه غير معروف خارج دائرة صغيرة من أمناء المتاحف والمهتمين بجمع الأعمال الفنية.

وقد تزامنت فترة ذروة نجاح سيلفي مع بدايات صناعة الأزياء والموضة. وكرجل فرنسي، كان سيلفي مدركا تماما للموضة، وعمد إلى جعل العارضات اللاتي استعان بهن في الصور يتخذن وقفات تبرز فساتين رائعة على نحو تحول بعد ذلك إلى نهج تتبعه مجلات الموضة التي نالت شعبية كبيرة في وقت لاحق من القرن.

حظي سيلفي بشهرة عريضة في حياته، وقد استمرت حياته المهنية المبهرة 10 سنوات فقط قبل تعرضه لمرض ذهني مدمر. وقد احتجز في مستشفى للأمراض العصبية على مدار العقود الثلاثة الأخيرة من عمره حتى وفاته عام 1910، مما دفع بأعماله إلى غياهب النسيان. فقط في الربع الأخير من القرن العشرين بدأ طلاب تاريخ التصوير يتفهمون على نحو كامل مكانة هذا الفنان الذي سارت جهوده بمجال استكشاف التأثيرات الضوئية الدقيقة مع طبيعة ما كان يفعله معاصره جيمس مكنيل ويسلر بمجال الرسم.

من جانبه، يملك «ناشونال بورتريه غاليري» 12 مجلدا من «السجلات اليومية» الخاصة بسيلفي التي تضم جميع الصور التجارية التي التقطها داخل الاستوديو الذي كان يمتلكه في بايووتر بين عامي 1859 و1867. وتعد تلك الصور الـ17 ألفا بمثابة تذكار فريد من نوعه من القرن التاسع عشر، حيث يعرض بانوراما من المجتمع الإنجليزي تتضمن الأمير ألبرت وأعضاء آخرين من الأسرة المالكة، وزائرين أجانب أمثال أرملة الملك كاميهاميها من ساندويتش آيلاندز وابنة جميلة لزعيم قبيلة أفريقية كانت الملكة فيكتوريا أمه في العماد.

علاوة على الأرستقراطيين والسياسيين، تضم الصور جميلات وعرائس وجنودا وخادما إيطاليا برفقة أطفال مشاكسين يتولى أمر رعايتهم، بجانب ممثلين مثل أدلينا باتي وفريدريك روبنسون.

ولا شك أن جميع هذه الصور تعد جزءا من التاريخ الاجتماعي. ومن أجل هذه الإبداعات التي قدمها سيلفي كمصور ينبغي أن نتذكره جميعا. على سبيل المثال، في صورة «الغروب» بأحد شوارع لندن، يعرض 4 عناصر سلبية لإظهار صبي ورجل من الطبقة العاملة أسفل مصباح يعمل بالجاز في ليلة ضبابية ممطرة - بينما يبدو جسد ثالث مبهم يسير باتجاههما في الخلفية جرى التعتيم عليه عمدا لغرض فني. لقد وجد سيلفي، مثلما الحال مع ويسلر، الجمال في مشاهد مقتبسة من مدينة واسعة يغلفها الضباب. ويفي المعرض الجديد سيلفي حقه الذي لم تتجاوز فترة حياته المهنية عقدا واحدا. ولولا إصابته باضطراب عصبي أنهى حياته المهنية سريعا، كان سيجري النظر إليه اليوم كفنان في مكانة أمثال إدغار ديغاس.

ولد سيلفي عام 1834 والتحق بالخدمة الدبلوماسية الفرنسية قبل تعرضه لتجربة كبرى حولت مسار حياته داخل معرض للصور عام 1855 في «معرض باريس الدولي». بحلول عام 1859، عرض سيلفي أول أعماله العظيمة «مشهد النهر» في أول معرض على الإطلاق يعرض صورا واعتبارها نمطا من الفنون الجميلة. من أجل التقاط هذه الصورة، وضع سيلفي الكاميرا الخاصة به على جسر فوق النهر بغية إظهار ضفتيه مع تموج النهر في المنتصف ويبدو ممتدا إلى ما لا نهاية. في الصورة، يبدو الطقس حارا في فترة بعد الظهيرة خلال أحد أيام الصيف. على ضفة اليسار، يبدو زوجان أنيقان على وشك استقلال قارب، بينما يوجد بالجهة اليمنى عمال في مزرعة ينالون قسطا من الراحة داخل مرج أخضر. وإذا كانت هذه المواضيع تبدو مألوفة الآن، فإن هذا يعود إلى أن «الانطباعيين» احتكروا هذه المواضيع في لوحاتهم لاحقا.

بالنسبة للمشاهد العادي، يبدو مشهد النهر طبيعيا تماما، لكن مثلما أوضح مارك هاوورث بوث، أمين متحف، فإن الصورة مركبة على نحو اصطناعي، فبدلا من إعادة طرح المشهد كما بدا ذلك اليوم، جرى تركيب الصورة من ضدين، فمن ناحية رسم سيلفي السحب وأشجار منعكسة على سطح النهر بيده. أما الزوجان اللذان يوشكان على ركوب قارب والمزارعون المستلقون طلبا للاسترخاء فلم يكن وجودهم محض مصادفة، وإنما طلب منهم المصور ذلك، أو ربما دفع لهم مقابل تصويرهم، وذلك حيث تمثل كل مجموعة طبقة مختلفة من المجتمع الفرنسي مع فصل النهر بين الأثرياء والفقراء والطبقتين الوسطى والعاملة والمدينة والريف. وإذا كنت ترى أن هذه القراءة السياسية لهذا المشهد الذي يبدو بريئا غير محتملة، فعليك الالتفات إلى الحقيقة التالية: في العام ذاته، وضع صورة لمشهد من الريف الفرنسي، واختار سيلفي الإشارة إلى مقابلها المضاد - وهو مشهد حضري يلمح إلى الاحتمال القائم دوما باندلاع توترات سياسية في فرنسا.

عند إمعان النظر في صورة «الأمر الأول» نجد عدة رجال من أبناء الطبقة العاملة مجتمعين عند زاوية أحد شوارع باريس المرصوفة بالأحجار. أما العنصر الذي أثار اهتمامهم فكان رسالة إلى سكان باريس من الإمبراطور نابليون الثالث، الذي كان يقود آنذاك حملة عسكرية في إيطاليا. وكان الرجال يقرؤون كلمات الديكتاتور الغائب التي أرسلت ليلا عبر تلغراف كهربي من أجل التأكيد على سلطته داخل هذه العاصمة التي تعج بالقلاقل.

إلا أن هذه الصورة التي قد تبدو مشهدا حضريا واقعيا يخلو تماما من أي رسالة ضمنية جرى التخطيط لها بعناية شديدة، حيث عمد سيلفي إلى ترتيب وضع الرجال بحيث يشكلون مثلثا، يمتد الضلع الأيمن منه على طول خط الظل القطري الذي يقسم الصورة لنصفين. ولم يكن أي مخرج سينمائي لينجح في توجيه اهتمام أكبر بزاوية سقوط الضوء، أو أوضاع الممثلين، حيث وقف الجميع فيما عدا اثنين في الظل متطلعين بأعينهم إلى الأعلى نحو الملصق المضاء بقوة.

وعلى الرغم من أنك قد لا تلحظ ذلك في بادئ الأمر، فإن اثنين منهما أدارا وجهيهما بعيدا عن الملصق، أحدهما لا يبدو كعامل، وإنما أشبه بطالب. ويمثل هذان الرجلان الفرق المثقفة والثورية المعارضة للدولة البوليسية في فرنسا التي ظهرت في ظل حكم نابليون الثالث. ومع ذلك، يبقى وجودهما داخل الحشد غير واضح لدرجة أنه عندما عرضت الصورة على الإمبراطور نفسه لم يفطن لوجودهما.