إكسبو شنغهاي: «سوق عكاظ» صينية تبهر العالم بثقافة الإنجاز

قراءة ثقافية في أكبر معارض العالم

هناك «جوع» للمعرفة والتعرف على ثقافات الشعوب والحضارات وقد بلغ عدد زوار الجناح السعودي في الأسبوع الأول من شهر يوليو (تموز) مليونا وستمائة ألف زائر («الشرق الأوسط»)
TT

منذ اختيارها عام 2001 عاما للحوار بين الحضارات، لم تقدم الأمم المتحدة جهدا ملموسا لترسيخ هذا المبدأ، على الرغم من مبادرات فردية قامت بها دول أعضاء هدفت إلى تجسير الفجوة بين الثقافات والأديان. وربما يأتي معرض إكسبو الذي يقام هذه الدورة في العاصمة الاقتصادية للصين شنغهاي، كأحد أبرز مواسم الحوار بين الحضارات.

يشارك في المعرض الذي يقام على ضفاف نهر هوانغبو، أكثر من 250 دولة ومنظمة، وتمثل المساحة التي تبلغ نحو خمسة كيلومترات مربعة وتضم أجنحة الدول المشاركة، واحدة من معجزات الإبداع الصيني في العمران المستند إلى عبقرية التصميم، وقوة الإنجاز، يقام المعرض تحت شعار «مدينة أفضل.. حياة أفضل»، وهو يستند إلى تقليد قديم في هذا النوع من المعارض يرتكز على استيلاد الأفكار العملاقة التي من شأنها أن تغير مسار الإنسانية إلى الأفضل.

الصينيون تقاطروا على أجنحة الدول المشاركة في صورة تعكس الاتجاه الجديد في الدولة التي تحتضن ربع البشرية، فلدى الناس هناك «جوع» للمعرفة والتعرف على ثقافات الشعوب والحضارات، بلغ عدد زوار المعرض 22 مليونا تقريبا، ومن المتوقع أن يزوره حتى إغلاقه في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل نحو سبعين مليون زائر، يأتون من أصقاع الصين المختلفة، ليقفوا في طوابير طويلة تحت المطر أمام أجنحة الدول المشاركة، على سبيل المثال يحتاج الزائر الصيني لجناح المملكة العربية السعودية في المتوسط إلى أكثر من 3 ساعات، في حين تمتد المدة الزمنية إلى نحو 5 ساعات من الانتظار للدخول إلى الجناح. ويعتبر الجناح السعودي من أكثر الأجنحة جذبا للزوار، فحتى الأسبوع الأول من شهر يوليو (تموز) زاره مليون وستمائة ألف زائر.

ويهدف «إكسبو 2010» إلى تبادل الخبرات في مجال التنمية الحضرية من أجل نشر المفاهيم المتقدمة المتعلقة بالمدن واستكشاف سبل جديدة للمستوطنات البشرية ونمط الحياة وظروف العمل في القرن الجديد وخلق مجتمع صديق للبيئة والحفاظ على التنمية المستدامة للإنسان.

يشعر الزائر لمدينة شنغهاي، ولمعرض إكسبو أن الصينيين الذين بدوا وكأنهم في حاجة ماسة إلى الانفتاح على ثقافات الأمم، أحدثوا للعالم ما يشبه «الصدمة»، وأظهروا قدرة على التحول إلى «ثقافة» الإنجاز والتطور والتفاني في العمل والتطلع نحو الحداثة بجذور صلبة، بل إنهم تمكنوا من إخراج المعرض من رتابة المواسم الثقافية التقليدية التي تتكئ على عرض بضاعة الآباء والأجداد. فالصينيون وضعوا أمام النخب التي تتهيأ لزيارة المعرض، وكذلك البيروقراطيين العرب الذين يعجبهم الحديث عن مشاريع عمرانية عديمة الجدوى، وضعوا أمامهم تجارب في التطور العمراني، يمثل معجزات خارقة في عالم اليوم.

أمام مئات التجارب للعمران المتسق والمنظم، الذي يعتمد على طاقة نظيفة، وأمام تجارب استيعاب التكدس البشري بكثير من السلاسة، بشكل لا يشعر زائر المدينة التي تعج بنحو 30 مليونا بأثر للزحمة، هناك تجارب في الاهتمام بالحس الإنساني، حيث تكفل 170 ألف متطوع من الشباب والشابات بإحداث تغيير أخلاقي في سلوكيات السكان المحليين، ليضيفوا إلى عاداتهم الإيجابية مزيدا من البشاشة والترحيب والتسامح مع الزوار الأجانب. ثمة مظهر حضاري لا يرصد مخالفات تجرح المشاعر للتعدي على النظام والتطاول على الصفوف ورمي الفضلات والتنابذ بالألقاب والتكلف في المعاملة. هذا يضفي على صورة المدينة جانبا إنسانيا يزيدها نجاحا في التحول إلى التجربة الحضرية المتطورة.

ثمة تجربة في التخطيط المدني يمكن أن تضيفه الصين للرصيد الثقافي للإنجاز، وهي تجربة مترو الأنفاق، فعلى مدى 15 عاما تمكنت شنغهاي من أن تنجز مشروعا لقطارات الأنفاق يمتد قبل عام إلى نحو 420 كيلومترا، وهو المشروع الذي يفوق مشروع أنفاق لندن أكبر مشاريع قطارات الأنفاق في العالم الذي أقيم خلال 150 عاما.

وعلى الرغم من الروح الثقافية التي اتسمت بها فعاليات المعرض، حيث تتبارى أجنحة الدول في إظهار منجزها الحضاري والإنساني في التحاور مع العالم، وقدرتها على ترسيخ مفهوم مدني وحضاري يعكس ثقافتها، فإن قلة من الدول العربية تمكنت من نقل رسالة تعكس رؤيتها للمستقبل.

بدا معرض إكسبو شنغهاي وكأنه سوق عكاظ لدى بعض الأجنحة العربية التي بالغت في استعراض مفاتن «دلة القهوة» وبيت الشعر، وإنجاز الآباء.

لكن المشاركة العربية لم تكن متواضعة المحتوى، وربما ينظر للحشود أمام الجناح السعودي كأحد النجاحات في إيصال الرسالة وجذب الاهتمام. الجناح السعودي يستند إلى رؤية تمزج بين الشعر والصورة، وفي حين بدا الشعر مموها وفي حاجة إلى تبسيط للزائر الصيني، فإن الصورة عكست جانبا مهما من رؤية السعودية في التواصل الحضاري. صمم الجناح على شكل قارب، يمثل طريق الحرير البحري إلى الجزيرة العربية بمساحة 6 آلاف متر مربع، وهو من أكبر المساحات التي منحت للدول المشاركة، ويوجد به خيمة على سطح المبنى العلوي، بالإضافة إلى حديقة الصداقة الصينية - السعودية وشاشات عرض داخل المبنى تعتبر الأكبر من نوعها، وبه عروض يستطيع الزائر التمتع بها من خلال تجوله داخل الجناح عن طريق السير المتحرك. وتم زرع 150 نخلة حول الجناح وفوق سطحه 150 نخلة أيضا.

ينتقل زائر الجناح السعودي على مدى دائرة حلزونية من أربعة طوابق نزولا ليستعرض أمام شاشة عرض سينمائي عملاقة مساحتها 1.600 متر مربع ويعد الأكبر في العالم تراث وثقافة وتطور السعودية. إلى جانب الرسالة التي تخاطب من خلالها العالم وهي المشاركة والتواصل.

جناح الإمارات هو الآخر يسخر تقنيات الصوت والتصوير ثلاثي الأبعاد لينقل قصة النهضة هناك، أما جناح دولة قطر فيركز على الموروث الشعبي، كما يهتم بالصورة الحديثة للدولة، ومثله جناح سلطنة عمان.

الجناح المصري يهتم بالحضارات المصرية القديمة، كما يهتم بالآثار، ويضم الجناح المصري آثارا تعبر عن الحضارة المصرية القديمة التي تمتد لأكثر من 7 آلاف سنة، بالإضافة إلى مجموعة من الآثار ونماذج لمشروعات ثقافية متميزة، بينها مشاريع مكتبة الإسكندرية، وأغا خان بالأزهر، ومشروع المتحف المصري الكبير، بالإضافة إلى مدينة القاهرة للمعارض التي ستقام خلال 30 شهرا بالتعاون مع الحكومة الصينية. بالإضافة إلى الفرق الفنية التي تصدح بالفنون الشعبية المصرية.

أما الدول الآسيوية، فثمة ميزة للجناح الصيني تجعله أكبر الأجنحة ليس لكونه البلد المستضيف ولكن لأن الصين لديها الكثير مما تقدمه للجمهور، وما تفاخر به في هذه السوق الثقافية. الصينيون يقدمون قصة الحلم الصيني الذي بدأ قديما وحافظ على حركة نمو وتحديث تتمسك بأهداب الثقافة التقليدية للمجتمع القائمة على مركزية الأسرة، والحفاظ على قوة الإنتاج، ورفع قيمة العمل. كما يرمز الجناح إلى اهتمام الصينيين بالانفتاح وتطوير بدائل الطاقة.

الجناح الياباني كسر التقليد، حيث يقدم أحدث تقنيات التصوير واستخدام التقنيات الحديثة في المواصلات، لكنها هذه المرة يقدمها كعنصر مهم للتواصل بين الناس وخلق مساحة مشتركة، فالتقنيات المعاصرة طالما كانت مشجبا للإخفاق في بناء علاقات إنسانية، لكن اليابانيين يقدمونها كتعزيز للتواصل والتلاقي، حيث تمكن شبكة الاتصالات الحديثة وتقنيات الصورة والصوت من إحداث لمسة عاطفية وروحية تحدث السعادة بين الناس.

الجناح الفرنسي بدا ثريا بالفن التشكيلي، حيث قدم لوحات نادرة لفنانين عالميين بينهم فان جوخ، كما بدا إلى جانبها مهتما بإبراز الطابع الاستهلاكي عبر استعراضه لأحدث منتجات دور الأزياء والموضة، كتعبير على الثقافة التي تمزج الرفاهية بالفن.

الجناح الإسباني اتخذ شكل مهد الطفل، لكنه لم يقدم كثيرا على عكس الحماس الذي كان يدب طوال المعرض بشأن صراع الفريق الإسباني للوصول إلى قمة المونديال في جنوب أفريقيا.

أما الجناح الأميركي، فقد ضم صورتين متعاكستين؛ الأولى استندت إلى خطاب رسمي يلح على الإنشائية ابتدأته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وانتهى بخطاب آخر للرئيس باراك أوباما، وبينهما سيل من الكلمات والعبارات العفوية ولكنها لا تنجح في إيصال رسالة محببة إلى الجمهور، فهي تلقي مواعظ لما ينبغي على الآخرين فعله، وتستعرض بالكلام منجزات موجهة لإحداث مفارقة أو مقارنة تنتهي بتسليم المشاهد بالعجز.

أما الصورة الأخرى، فكانت أكثر إنسانية وأكثر نجاحا في التأثير، حيث تجرب مراهقة أميركية القيام بمبادرة لتحسين البيئة، أمام بيتها، وتنجح بإصرارها وبقدرتها على رص الصفوف وتوحيد الجهود في تحويل الحي السكني إلى عنصر فعال ومتعاون في الحفاظ على البيئة.

خلال أيام المعرض كانت هناك استعراضات فنية ناهزت ألف عرض، استعرضت من خلالها الدول المشاركة هويتها الثقافية، وأتيح للمشاركين التعرف على الصورة الثقافية للجانب الآخر، حيث لا مجال للميديا أو الإعلام في تبييضها أو تشويهها، وامتدت جسور من التعارف بين المشاركين، لكن المعرض أتاح للجميع أن يختبر الثقافة التي يحملها، فإذا كانت تلك الثقافة تعتمد على ترسيخ الرضا عن الذات والتعامي عن المسؤولية تجاه الأرض والإنسان، أو كانت الثقافة شفهية وتستند إلى الكلمات البليغة وحدها، أو كانت فقط تعيد إنتاج صورة الماضي، فإنها لا تصلح للمستقبل.

وأمام قوة الإنجاز الصيني في شنغهاي الذي يمازج بين السرعة الصاروخية للتطور والجودة، ويمازج بين المدينة المتطورة عمرانيا والرخاء الإنساني فيها، فإن الصينيين يقدمون وجبة دسمة من ثقافة الإنجاز لعشرات المسؤولين في قطاعات البلديات (الجهة التي تدير معظم أجنحة الدول المشاركة) وأمانات المدن ومخططي الشوارع والأحياء. الثقافة التي تستند إلى الإبداع والتفاني في العمل، وبعد النظر في التخطيط، والدقة في التنفيذ.