تعميق العلاقة بين العلماء والعامة يزيد من الاهتمام بالعلم والثقة بالعلماء

للمساهمة في محو «الأمية العلمية»

يؤكد عدد كبير من العلماء والخبراء على أهمية دور العلماء في جذب العامة والطلاب إلى الاهتمام بالعلم («الشرق الأوسط»)
TT

تكاد دول العالم أجمع تشكو من «الأمية العلمية» وقلة اهتمام عامة الجمهور بالعلم والتكنولوجيا والقضايا العلمية، الأمر الذي يعوق تحقيق أهداف السياسة العلمية للدولة. ولهذا اتجهت دول العالم في الآونة الأخيرة إلى الاهتمام بمناقشة الأساليب الفعالة الهادفة إلى تعميق اهتمام العامة والطلاب بالعلم والتكنولوجيا والقضايا العلمية، خاصة في المجالات الحديثة التي تثير الكثير من المسائل الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والتساؤلات المشروعة مثل: النانوتكنولوجي (التقنيات المتناهية في الصغر) والروبوتات والذكاء الصناعي والبيولوجيا الصناعية والخلايا الجذعية والهندسة الجينية والبيوتكنولوجي (التكنولوجيا الحيوية) والتغير المناخي والانحباس الحراري وغيرها.

في كتاب صدر خلال العام الماضي بعنوان «أميركا غير العلمية: كيف تهدد الأمية العلمية مستقبلنا؟»، من تأليف كريس موني وشيريل كيرشنبوم، يرى المؤلفان أن المجتمع الأميركي يعاني من أعراض «الأمية العلمية»، خاصة بعد انحسار موقع العلم في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن ملكة الإبداع والابتكار والتجديد لا تزال قوية في الولايات المتحدة. فمن جهة هناك نجاحات كبيرة في مجال الأبحاث، لكن في المقابل توجد حالة من تقوقع وانكماش المشتغلين بالعلم داخل المختبرات على حساب الصلة مع العالم الاجتماعي الخارجي المحيط بهم. وبالتالي، أصبحت «الثقافة العلمية» تتطور، لكن بعيدا عن الاهتمام العام، بسبب ضعف التواصل بين العلماء والمجتمع الأميركي. وعلى الرغم من أهمية العلم فإن كثرة من المشتغلين فيه لا يعرفون كيفية شرح هذه الأهمية للمجتمع وللعامة.

واليوم يؤكد عدد كبير من العلماء والخبراء والمهتمين بشؤون الاتصال في مجالي العلم والتكنولوجيا على أهمية دور العلماء في جذب العامة والطلاب إلى الاهتمام بالعلم وقضاياه، ومشاركتهم جنبا إلى جنب مع العلماء في صياغة ورسم السياسة العلمية للدولة والعمل على نجاحها.

إذ لم تعد النظرة إلى فهم العلم والتكنولوجيا والاهتمام بهما قاصرة على العلماء والمتخصصين وأصحاب الاهتمام، بل أصبحت ثمة ضرورة أو حد أدنى لفهم العامة ما يجري خلف مختبرات الأبحاث العلمية ومراكزها من تجارب وأبحاث تلعب دورا مهما في صياغة حاضر العالم ومستقبله، وتتطلب تنوره العلمي ومشاركته الفعالة.

يقول الدكتور آلان ليشنر، الرئيس التنفيذي للرابطة الأميركية لتقدم العلوم والناشر التنفيذي لمجلة «ساينس» الأميركية العالمية الشهيرة التي تصدرها الرابطة، في مقال افتتاحي بعنوان «ربط العامة بالعلوم والتكنولوجيا»، إن «ثمة حاجة لربط ودمج عامة الجمهور بمجالات وقضايا العلم والتكنولوجيا في حوار ثنائي الاتجاه أكثر انفتاحا وأمانا، كما نحتاج إلى احترام منظور العامة وما يتعلق بهم وتطوير شراكة يمكن أن تستجيب لهم».

ففي اجتماع للأكاديمية الأميركية للآداب والعلوم مؤخرا، يوم 29 يونيو (حزيران) الماضي بعنوان «فهم العلماء للعامة»، وضمن مشروعها ومبادرتها العلمية لتحسين العلاقة بين المجتمع العلمي وعامة الجمهور، خاصة ما يتعلق منها بالقضايا العلمية التي تثير لدى العامة قلقا عميقا، أشارت الأكاديمية إلى أن على العلماء فحص الطرق ومهارات الاتصال التي تمكنهم من الاندماج مع العامة وتحقيق الفهم المتبادل، والتي تحسن مستوى فهم وجذب العامة للاهتمام بمجالات وقضايا العلم والتكنولوجيا. وأضافت أن هناك مسؤولية مشتركة بين العامة والمشتغلين بالعلم لتحقيق ذلك، وأن بمقدور عامة الناس إثارة بعض القضايا والمسائل المهمة التي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار.

ويقول كريس موني في تقريره الصادر مؤخرا عن الأكاديمية الأميركية للآداب والعلوم بعنوان «كيف يفهم العلماء العامة»، إنه «غالبا ما يكون لدى العلماء والعامة إدراك مختلف للمخاطر وطرق مختلفة جدا لمنح الثقة والحكم على مصداقية مصادر المعلومات، وربما يكون سوء فهم العلماء للجمهور راجعا إلى خصوصيتهم المميزة والافتراضات وأنماط السلوك». ويضيف أن «ردود الأشخاص العاديين على الخلافات العلمية تكون من خلال نظمهم القيمية أو الأخلاقية، وأيضا من خلال منظورهم الآيديولوجي أو السياسي».

وفي محاضرة أمام الرابطة الأميركية لتقدم العلوم في يونيو الماضي، قال وزير الدولة الهندي للعلوم والتكنولوجيا بريسفيراج شافان «إن الهند ناشطة في استثمار متواصل وطويل الأمد ومثير في برامج التربية العلمية لمقاومة الفقر والأمية ودعم التحول، لتحقيق مركز عالمي في الابتكار»، وأشار إلى أن في الهند «برامج طموحة للتعرف على العلماء الصغار في مراحل مبكرة، وعلى من لديهم استعداد للبحث والاختراع والابتكار، وإمدادهم بالحوافز لمواصلة تخصصهم وتقدمهم في مجال العلوم، وسيصار إلى إحداث تحول في الهند من خلال التربية والعلوم والتكنولوجيا والابتكار والاقتصاد القائم على المعرفة».

كذلك في مقالة في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية لكريس موني بعنوان «في قضايا مثل الانحباس الحراري والتطور يجب على العلماء أن يتحدثوا»، قال إن اعتقاد عامة الجمهور في علم الانحباس الحراري آخذ في الانخفاض، وفي الاستطلاع الذي أجرته صحيفة «واشنطن بوست» في مايو (أيار) الماضي، وجد أن 40 في المائة من الأميركيين لا يثقون في ما يقوله العلماء عن البيئة، وهذه نسبة تصاعدت بشكل لافت للنظر عما كانت عليه في أبريل (نيسان) 2007. وأضاف أنه وفق دراسة مركز أبحاث بيو الأميركي، فإن 85 في المائة من العلماء الأميركيين يقولون إن المشكلة الرئيسية هي أن الجمهور لا يعرف الكثير عن العلم، وأن 76 في المائة منهم يقولون إن الإعلام عاجز عن التمييز بين المعلومات الصادرة عن مصادر علمية موثوقة والادعاءات الأقل علمية بدلا من التحفيز لبذل جهود كبيرة في سبيل الاتصال. ومثل هذا التشكيك والثقة المفقودة أدى ببعض العلماء إلى تجنب التحدث للصحافيين والظهور في لقاءات تلفزيونية. ويشير موني إلى قول نيل لين، عالم الفيزياء في جامعة رايس والمستشار العلمي لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، إن «مهمة العلماء هي القيام بعمل الأبحاث والتدريس، أما نقل النتائج للجمهور فكان من اختصاص الصحافيين العلميين، ومن سوء الحظ أن هذه الحقيقة الساطعة لم تتغير عبر العقد الماضي، واستمر التدريب العلمي في تحويل الباحثين إلى متحدّثين يهتمون بعناية بالكلمات وكأنها موجهة لنظرائهم وليس لوسائل الإعلام أو عامة الجمهور، ثم إن غالبية العلماء عاجزة عن صياغة رسالة موجزة وبليغة الأثر للإعلام، لأن الكثير منهم لا يثق بالجمهور أو بالصحافة».

وأشارت الأكاديمية الأميركية للآداب والعلوم إلى أن هناك أربعة محاور مهمة تحكم العلاقة بين العلماء وعامة الجمهور، هي: التنافر (أو انعدام التجانس)، ومسألة الثقة أو انعدامها، والتربية، والاتصال، كما طورت سلسلة من التوصيات بشأن تحسين الاندماج بين المجتمع العلمي والعامة، من بينها «على المجتمع العلمي أن يعلم العامة مبكرا بالمراحل الأولى للتطور التكنولوجي، وكذلك بالقيم الأخلاقية المفصلة والواضحة التي ترشد أعمالهم العلمية. ويجب على خبراء علم الاجتماع العلمي أن يقدموا للعلماء قاعدة بيانات ومعلومات عن كيفية فهم اتجاهات عامة الجمهور للعلم والتكنولوجيا، وأن تكون هناك أعمدة منتظمة في الصحافة العلمية بخصوص هذا الشأن. كذلك يجب أن تشتمل الاجتماعات واللقاءات العلمية للعلماء على مناقشات لاتجاهات العامة تجاه الاكتشافات العلمية الحديثة، ولماذا هذه الاتجاهات أكثر حيوية وأهمية للبحث العلمي، ومن المهم أن يخلق العلماء فرصا لتوطيد الثقة والمصداقية مع عامة الجمهور». وتضيف الأكاديمية الأميركية أن القضايا العلمية تحتاج إلى «مدخل توقعي»، فقد اقترحت أن تجتمع وتتعاون مبكرا مجموعة متنوعة من العلماء الباحثين وعلماء المجتمع والخبراء في كيفية التفاعل والاندماج مع العامة وخبراء مهارات الاتصال، من أجل تحديد المسائل العلمية المثيرة للجدل وأفضل الطرق لمخاطبة وإعلام العامة بها. كما أن أساليب ومهارات الاتصال تختلف أهميتها ودلالتها اعتمادا على كون القضايا العلمية معروضة ومثارة منذ فترة طويلة أم حديثة نسبيا. ففي حالة التكنولوجيا الناشئة أو الحديثة سيكون من المتوقع أن تكون لدى اتجاهات العامة ثقة أقل نحوها.