«فتاة الغرب الذهبي» تحقق نجاحا كبيرا أمام الجمهور الأميركي بنجومها الإيطاليين

الموسيقار الإيطالي بوتشيني في أوبرا سان فرانسيسكو

«دار أوبرا سان فرانسيسكو»
TT

كان عمال مناجم الذهب في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة في يوم من أيام عام 1850 مجتمعين في حانة يرتادها الأشقياء ورعاة البقر ويمارسون لعبة من ألعاب الورق (الشدة)، ثم يتشاجرون لأن أحدهم حاول الغش في الورق فيدخل «الشريف» (عمدة البلدة) شاهرا مسدسه لمنع الصدام.

هذا ليس مشهدا في فيلم من أفلام رعاة البقر يقوم ببطولته راندولف سكوت أو جون واين، بل هو المشهد الافتتاحي لأوبرا «فتاة الغرب الذهبي» للمؤلف الموسيقي الإيطالي الشهير جياكومو بوتشيني.

هذه المسرحية الغنائية، التي يندر عرضها في العالم، تعرضها «دار أوبرا سان فرانسيسكو» العريقة في الذكرى المئوية لتأليفها، مع الإشارة إلى أن مؤلفها بوتشيني كان يعتبرها من أفضل ما لحنه، وتفوق أنغامها المبتكرة أوبراته الأكثر شعبية هذه الأيام مثل «لا بوهيم» و«مدام بترفلاي» و«توسكا» و«توراندو».

وفي المسرحية المغناة ينتحل الشقي اسما مستعارا ليتمكن من سرقة الذهب المستخرج من المنجم حيث يودعه العمال عند «ميني».. أو «فتاة الغرب الذهبي» التي يثقون بها، إنما يقع الشقي في حبها فيقلع عن خطته ويحاول «الشريف» إقناع العمال بنية الشقي السيئة ويقبض عليه لإعدامه شنقا، فتأتي «ميني» في اللحظة الأخيرة وتنقذه.. لأن الذهب المؤتمن لديها ما زال في مكانه. وهكذا ينتصر الحب على الرغبات الشريرة.

كان العرض إيطاليا بامتياز. فأغلب المغنين الرئيسيين جاءوا من إيطاليا مثل «التينور» المعروف سالفاتوري ليشيترا في دور «الشقي» ديك جونسون، و«الباريتون» روبرتو فرونتالي في دور «الشريف» الذي ينافس الشقي في ولعه بـ«فتاة الغرب الذهبي» التي تقدم المشروبات لرواد الحانة. وكذلك قائد الأوركسترا نيكولا لويزوتي الآتي من مدينة تورينو، في شمال إيطاليا، ليتبوأ منصب المدير الفني للأوبرا في سان فرانسيسكو منذ أوائل العام الحالي. أما نجمة الأوبرا الأميركية «السوبرانو» ديبورا فويت التي أدت دور «ميني».. أو «فتاة الغرب» فكانت الأميركية الوحيدة بين فريق الأداء لأن العرض بأكمله جاء من «دار أوبرا تياترو ماسيمو» في باليرمو، عاصمة جزيرة صقلية، مع تصميم الملابس والمشاهد والإخراج.

بوتشيني (1858 - 1921) وصف نفسه ذات مرة بأنه «صياد» للأنغام العذبة الإبداعية والنساء الجميلات وللطيور البرية الجامحة وقصص المسرحيات الغنائية الفريدة من مختلف أرجاء العالم.. كاليابان (مدام بترفلاي) والصين (توراندو) وأميركا (فتاة الغرب الذهبي)، معتمدا روايات الأدب الإيطالي والفارسي والفرنسي. ومن أقواله المشهورة «لقد منحني الله موهبة التأليف الموسيقي، ولولاها لما كنت شيئا». إذ لم يكن مهتما بالسياسة أو غيرها بل كان جل تركيزه على الموسيقى دون أن يكون تقليديا أو محاكيا لغيره أو ثوريا يبغي التحديث.. غير أن ألحانه العاطفية المتدفقة تجرف المستمع، وقد تستدر دموعه رغم بساطة قصص الأوبرا التي كان يختارها بعناية. كما يحس المتفرج على أوبرا «فتاة الغرب الذهبي» بالتعاطف مع شخصية البطلة مثلما ينجذب إلى البطلات في مسرحياته الغنائية الأخرى، مثل «توسكا» و«ميني» و«توراندو» (وأصل اسمها فارسي هو «دوختر توران»، أي بنت طوران).

هذا وكان بعض خصوم الموسيقار الفذ قد أسسوا جمعية سموها «لنكره بوتشيني وموسيقاه الضحلة» إلا أن ألحان بوتشيني ما زالت تستأثر بإعجاب الجمهور، بل وتحتل المقام الأول بين أكثر المسرحيات الغنائية شعبية. وهذا ما رأيناه في سان فرانسيسكو، حيث حققت «فتاة الغرب الذهبي» نجاحا باهرا رغم أنها لم تعرض منذ ثلاثين سنة في هذه المدينة الساحلية الأنيقة التي تعتبر إحدى أرقى المدن الأميركية وأغناها ثقافة وأكثرها شبها بمدن أوروبا.

كثيرون ممن حضروا المسرحية توقعوا تألق «السوبرانو» الأميركية ديبورا فويت لكنها على ما يبدو فقدت شيئا من بريق صوتها الساحر منذ اتبعت حمية قاسية لتخفيف وزنها.. الذي جلب لها قبل سنوات لقبا غير مستحب هو «أضخم مغنيات الأوبرا في العالم وأسمنهن»، ومعه غضب مديري المسارح في لندن ونيويورك الذين هددوا بطردها. هذا، وستؤدي فويت الدور نفسه في نيويورك في وقت لاحق من العام الحالي، ثم تكرر التجربة في شيكاغو.

وخلاصة القول، إن الإنتاج الإيطالي لـ«فتاة الغرب الذهبي» أثبت براعته في نقل الروح الأوروبية إلى هذه المسرحية الغنائية التي تعيش جو أميركا أثناء حمى البحث عن الذهب في كاليفورنيا. وأثبتت موسيقى بوتشيني أنها ذات رواج كبير منذ عرضت لأول مرة عام 1910 في «أوبرا المتروبوليتان» بنيويورك. وكان بوتشيني يتابع التدريب على غناء الأوبرا في إيطاليا حين دفع أحد المغنين البطلة بشدة مما طرحها أرضا فلم تعد قادرة على الوقوف، فنهض بوتشيني صائحا: «عليك البقاء على الأرض خلال العرض مثلما جرى لك في البروفة، وتابعي الغناء وأنت مستلقية فستتمكنين من الوقوف على سحب الألحان».