غسان الرحباني وملحم بركات في صراع موسيقي بروح دعابة عالية

«ومن الحب ما قتل» اختتمت «مهرجانات بعلبك» بانتقاد الدور العربي في لبنان

مشهد من مسرحية «و من الحب ما قتل»
TT

رقصت النوتات.. تحولت الآلات الموسيقية إلى رشاشات، وفي لحظة عصيان فني عارم عجزت الحناجر عن النطق، في ختام «مهرجانات بعلبك الدولية»، ثم بعد أخذ ورد، انطلقت الأغنيات عفية مطواعة، معلنة كسر الصمت القسري الذي فرضه إضراب فني فريد من نوعه. إنها مسرحية «ومن الحب ما قتل» التي انتهت بها مهرجانات بعلبك مساء السبت الماضي، وهي من بنات أفكار كل من الفنان ملحم بركات والفنان غسان الرحباني.. من وحي الصراع بين الموسيقى الشرقية والغربية.

فكرة الصراع بين نوعين من الموسيقى، تبدو للوهلة الأولى ساذجة، من الصعب أن يبنى عليها عمل مسرحي غنائي يستحق الفرجة. والمشاهد الأولى لا تقنع بأن ما سيأتي بعدها سيكون ممتعا حقا. لكن الخلاف بين غسان الرحباني (نصير الموسيقى الغربية) وملحم بركات (حامل لواء الموسيقى الشرقية)؛ الفنانين اللذين يقودان بفكريهما المختلفين ناديا للموسيقى سرعان ما يجتذب أهل السوء، المتربصين شرا في الخارج ويعملون على استغلال النزاع الفني لتخريب البلد.

قصة لبنان البلد الجسر، أو مفترق الطرق بين الشرق والغرب، وما يتعرض له من مؤامرات خارجية، عادت مرة أخرى إلى بعلبك، ولكن بصيغة مختلفة، لتكون نواة عمل غنائي راقص. ملحم بركات بخفة ظله وجمال صوته المطواع وكذلك غسان الرحباني بتجاربه الطويلة مع الخلطات الموسيقية وروحه الابتكارية، استطاعا معا أن يحيكا عملا ظريفا، مرحا، خفيف الدم لا يخلو من لقطات ذكية.

ملحم بركات يغني مواويله العربية على صوت أوتار العود من جهة، ومعه جوقة ترقص وتردد وراءه، وغسان الرحباني يغني بالعربية لكن على وقع ألحان غربية صاخبة من جهة أخرى، ومعه مناصرون يعزفون على الغيتارات ويرقصون. التباري بين الجانبين، ثم تداخل الموسيقات، والجنون الذي يحدثانه، تحت أضواء سريعة وخاطفة، في حين أعمدة بعلبك الضخمة تشكل خلفية بديعة لهذه المشاهد، لها صدى يمتع على المسرح.

رانيا (رانيا الحاج) التي مثلت وغنت في مسرحيات سابقة لغسان الرحباني، هي الحضور الأنثوي الضروري، لاستكمال عناصر العمل. رانيا وافدة على نادي الموسيقى تريد أن تصل إلى الشهرة بأي وسيلة. وما بين غسان وملحم، اللذين يحاولان استمالة قلبها، تفضل رانيا أن توازن بين الطرفين، وأن لا تخسر أيا منهما: «أنا بغني شرقي وغربي ما عندي مشكلة» تردد رانيا. لكن «زيبق بعد الظهر» وهذا اسمه ويلقب نفسه بـ«الفينيقي» وهي كلمة لها معناها السلبي، يرى في الخلاف الموسيقي ثغرة يستطيع الاستفادة منها حين يقنع الطرفين، بأنه سيأتي لكل منهما بوفود عربية تدعمه دون الآخر.

وهذه هي الحجة الفنية التي بواسطتها، ستتغير المشاهد، ويجد المتفرج نفسه أمام تنويعات في الرقص واللهجة والملابس. فثمة وفد خليجي، وآخر أردني وغيره سوري، وهؤلاء جاءوا بأزيائهم المتنوعة لنصرة الألحان العربية التي يمثلها ملحم، في حين جاءت وفود أخرى من المغرب والجزائر ومصر، لتأييد غسان الذي يدعو إلى التغيير والتطور وتجاوز التخلف بالانفتاح على الغرب. وفي حين يؤدي كل وفد رقصته الشعبية على وقع موسيقاه الفلكلورية، يشعر كل من غسان وملحم أن ثمة ما يدبر لهما، وأن الوفود العربية انقسمت بينهما، وزادت من الشرخ، الذي كان مجرد خلاف في وجهات النظر.

الفصل الثاني تجاوز الأول من حيث غناه المشهدي، وجمالية النص، وحتى أناقة الأزياء التي بدت أقرب إلى الشحوب في المشاهد الأولى. تظهر النوتات؛ شرقية وغربية، بملابسها السوداء، وتعلن عصيانها على ملحم وغسان وإضرابها، وتنذرهما بأنهما لن يتمكنا من كتابة أغنية واحدة إن لم يعد كل منهما إلى لونه الخاص، ويوقفا الحرب القائمة بينهما، بعد أن حاول كل منهما تقمص دور الآخر، لعله بذلك يفوز بقلب الجميلة رانيا. يحاول غسان في واحد من أجمل مشاهد المسرحية أن يغني لكنه لا يصدر سوى تنهدات، وأصوات اختناقات لا معنى لها. وعلى إيقاعات مبهمة لموسيقى إيقاعية هجينة نشاهد رقصة، خاصة جدا لها طعم هذه الحالة العجيبة التي يعيشها غسان، ومعه ملحم الذي يكتشف هو الآخر أن حنجرته قد شلت، بفعل إضراب النوتات. جمعية المؤلفين والملحنين بملابسها التي تشبه أولئك الخارجين من الأكاديمية الفرنسية، تنطق بنص دستوري فني تطالب فيه الطرفين بوقف الحرب التي ستقضي على الموال والروزانا. وعلى الرغم من معرفة الطرفين بأن الوفود العربية - في تلميح هزلي وانتقادي شديد للدور العربي في لبنان - تعبث بالجانبين معا وتعيث فسادا، فإن هذه الوفود تلتقي على المسرح وتتبارز كلاميا حيث يقول أحد الفريقين للآخر منتقدا موقفه المحافظ: «نحنا أسياد الشعور.. إنتو عجقة بلا طعمة»، فيرد الطرف الثاني: «إنتو دخّلتو الغيتار وخربتو النغمة». لكن سرعان ما يتحول الكلام إلى مبارزة، وتصير الآلات الموسيقية الخشبية التي يحملونها رشاشات ويتبادلون إطلاق الرشقات، ذات الصوت الموسيقي، وتسقط رانيا صريعة حين تحاول أن تدخل لتفك الاشتباك بين الطرفين.

أبدع غسان الرحباني كمخرج في مسرحة هذا المشهد القتالي بطرافة تحسب له. فهو قتال وليس بقتال. إنها مبارزة سريعة أحيانا بالأيدي والآلات الموسيقية، وبطيئة كشريط سينمائي ممطوط في أوقات أخرى. في حين تلعب الإضاءة المحترفة دورها الفذ، ويبدو الجانب اللبناني بين الطرفين العربيين حائرا مرة وهو يتفرج على المعركة من منصة مرتفعة، ومرة أخرى ينزل بين المتقاتلين يحاول الفصل بينهما.

وكما هي الحال في كل المسرحيات الغنائية اللبنانية لا بد للوطن من أن ينتصر، وللبنان أن يستعيد حريته. وهنا يخرج العلم اللبناني لينتقل بين أيدي الفنانين المؤدين تمثيلا ورقصا وغناء، ليصل إلى 100 شخص ملأوا الخشبة حيوية وحبورا. «من بعد اللي صار، وانجلى الليل، رجعت الحرية، وانكسر الويل. انتصرنا عالمتاعب» يقول الفنانون غناء، وأملا في الانتصار الدائم لوطن أنهكته الحروب ولا تزال.

عمل غنائي استعراضي، لا يدعي خروجا عن عادة الأعمال الغنائية اللبنانية لكنه يتميز بروح دعابة عالية، وبخفة دم المؤدين، من ملحم إلى غسان، خاصة «الفينيقي» الذي يلعب دور اللبناني الوصولي وهو يستجلب الغرباء طمعا في كسب المال. بيار شمعون الذي أدى هذا الدور ببراعة استطاع أن يخطف ضحكات المتفرجين، وكذلك وعد ملحم بركات، ابن ملحم بركات في دور جيلبير، الذي يبقى يبحث عن نفسه وينتظر وصولها طوال المسرحية، وعلي خليل في دور الخواجة الذي يكون وسيطا أو سمسارا يتدبر أمر التدخل العربي، وعماد شاكر في دور صاحب «السروال» الهزلي.

تسجل لمصمم الرقصات مالك عنداري مهارته في رسم كوريغرافي، فاقت في بعض الأحيان، خاصة عند أداء الدبكة، بعض الأسماء اللامعة جدا في هذا المجال، كما كانت للشاعر نزار فرنسيس، مشاركته المهمة في كتابة ثلاث أغنيات جميلة.

سجلت «ومن الحب ما قتل» شراكة ناجحة بين ملحم بركات وغسان الرحباني تحتاج لمزيد من العناية بالنص والحوارات والأزياء وتوزيع الممثلين على المسرح، خاصة أنها قد تكون فاتحة لأعمال أخرى تجمع هذين الفنانين المختلفين والمتكاملين.