الجزائر تودع أديبها المحبوب الطاهر وطار

رحل عن عمر يناهز 74 عاما وقد ووري الثرى ظهر أمس

الطاهر وطار
TT

الطاهر وطار ليس مجرد أديب جزائري غادر الدنيا الفانية تاركا وراءه قصصا، وروايات ومسرحيات وكثيرا من الآراء الجريئة حد التهور.. «عمي الطاهر»، كما يحلو للجزائريين أن يسموه، كان بالنسبة لكثيرين، «حامل الأسرار»، ونموذجا للأديب الذي يصعب الفصل بين ما يكتب وما يعيش. له في الجزائر شعبية واسعة، على الرغم من تضارب الآراء حوله، ومعروف في العالم العربي، كأحد أبرز الوجوه الجزائرية الأدبية، وأكثرها انتشارا.

ووري الثرى يوم أمس الجمعة، في مقبرة العالية في العاصمة الجزائرية، بعد إلقاء النظرة الأخيرة عليه في «قصر الثقافة»، وكان قد فارق الحياة، في العاصمة الجزائرية، يوم الخميس عن عمر يناهز 74 عاما إثر معاناة دامت عامين مع المرض، قضاهما متنقلا بين باريس والجزائر. مرض عضال لم يقعده عن الكتابة أو المشاكسة حيث أصدر روايته الحادية عشرة والأخيرة التي حبّرها وهو في سريره الباريسي تحت عنوان «قصيدة في التذلل» تحدث فيها عن تذلل بعض الشعراء الذي تولوا مناصب ثقافية، مستفيدا من معرفته الكبيرة بما يدور في الدهاليز. فقد كان الطاهر وطار «الصندوق الأسود» بحسب ما يقول عنه الصحافي الجزائري شبوب أبو طالب: «فقد كان مراقبا عاما للحزب الحاكم، ولديه اتصالات بكل الأدباء، وغالبيتهم الساحقة تنتمي للحزب، وهؤلاء يكتبون له كل شيء عن زملائهم، وبالتالي فهو الرجل الذي يعرف كل شيء عن الجميع». والطاهر وطار الذي عرف بتواضعه وقربه من الأدباء والصحافيين ومجالسته للشبان منهم، كان يشرب الشاي معهم، ويحدثهم عن تاريخ الأدب، وعمن لم يعاصروه ولم يعرفوه. لذلك يقول شبوب: «لقد كان الطاهر وطار يعني لنا الكثير، وفقده اليوم يعتبر حدثا أليما، فقد كان يشجع هذا، ويسأل عن ذاك، ويدعو هذه المجموعة إلى العشاء، ويساعد آخرين ماديا ليتخطوا عقباتهم الأدبية الصغيرة».

ولد الطاهر وطار، في عائلة بربرية، فلاحية متوسطة الحال، وهو واحد من أربعة صبيان رزقت بهم العائلة، حيث كان والده حارسا بلديا أيام الاستعمار الفرنسي. أرسل الطاهر وطار في سن متأخرة، بعد أن بلغ الرابعة عشرة إلى مدرسة تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهناك تعلم هذا البربري العربية الدارجة إلى جانب الفصحى، وتلقى علوما دينية. وبعد الجزائر انتقل وطار إلى تونس وهو في الثامنة عشرة تقريبا، ليلتحق بجامع الزيتونة لسنتين ويتركه قبل أن ينال شهادته. أحب المعرفة، وكان نهما للقراءة منذ صغره، ويروي أنه تلقى وهو لا يزال في قريته دروسا بالمراسلة من مصر في الصحافة والسينما، حفظها وأحبها كما أحب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والريحاني وبشارة الخوري والعقاد وطه حسين. ويبدو أن هذا الجانب الأدبي التخليلي، هو الذي جعله يصطدم بالمشايخ الذين تتلمذ على أيديهم في الجزائر وتونس، من دون أن يتمكن من إكمال تعليمه الأكاديمي. ومن هنا يمكن فهم نزعته اليسارية، وماركسيته التي اعتبر هو نفسه، أنها تجاوزت الآيديولوجيا الجامدة لتصبح لديه نهجا في التطور والنمو.

عايش الطاهر وطار الثورة الجزائرية، وحركة التحرر الوطني، وعمل في المجال السياسي منذ عام 1956 وبقي بحسب رأيه «مقاوما» في «حزب جبهة التحرير الوطني»، ونهلت كتاباته النقدية وقصصه ورواياته من هذا المعين.

قال في مقابلة أجرتها معه «الشرق الأوسط»: «كل شخوص رواياتي نابعة من الواقع، وتشكلت تحت وطأة مقاربتي الروائية المذكورة، وكلها متابعة لحركة التطور الوطنية في علاقتها مع مثيلتها العالمية. في رواياتي (عرس بغل) و(حوات والقصر) تناولت الحكم في فترة الرئيس هواري بومدين كنظام عصابة، و(العشق والموت في الزمن الحراشي) لا تخرج عن نطاق متابعتي لدور البورجوازية في مسار الثورة التحريرية والحكم الوطني في الجزائر بعد الاستقلال والردة التي عرفتها البلاد على أيدي ثوارها أنفسهم. ولم يخف الطاهر وطار حين كان يتحدث عن أدبه أن كتاباته «تعكس ما كان يعايشه يوميا، وطوال السنة، في الاجتماعات التي كان يعقدها أو يشارك فيها، وما يجري داخل الحزب ومنظماته من نقاش».

صاحب «اللاز» كان كثير الحركة، ساخرا، غضوبا، مزوحا، اتهمه البعض بانتمائه للسلطة، واتهمه آخرون بأنه معارض، وقف ضد إلغاء الانتخابات عام 1992 وإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات الصحراوية من دون محاكمة، فقيل إنه أصولي، وهذا لم يمنع اتهامه بالعلمانية أيضا على الرغم من تأسيسه إذاعة القرآن الكريم. ثمة من يعتبره كلاسيكيا تجاوزه الزمن، وهناك من يعتبره أحد أهم المجددين والمجربين في المجال السردي في الجزائر. عام 1989 أسس الطاهر وطار «الجمعية الثقافية الجاحظية» التي عمل فيها بتواضعه الشديد، وإمكانياته المحدودة. مرضه الأخير، لم يقعده عن لقاء الناس، ومحادثة الأصدقاء، والبقاء على سخريته وتفاؤله، وحسه النقدي. رحيل الطاهر وطار، يطوي مرحلة من التاريخ الجزائري الحديث، ويفتح صفحة أخرى، لا تزال ملامحها مبهمة وغامضة، بالنسبة لكثير من الجزائريين. من مجموعاته القصصية «دخان من قلبي» 1961، «الطعنات» 1969، «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» 1974. كما كتب من الروايات بعد «اللاز»، «العشق والموت في الزمن الحراشي» 1980، «الشمعة والدهاليز» 1995، «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» 1999، «الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء» 2005. حائز على «جائزة العويس» و«جائزة الشارقة» التي كرم بها في نهاية حياته، ورحل صديق المجلات والصحف، الذي أسس أول جريدة أسبوعية جزائرية باللغة العربية، حملت اسم «الأحرار» يومها ثم أوقفت، ولم تنقطع علاقته بالصحافة من يومها، وترجمت أعماله الأدبية إلى عدة لغات منها الروسية والفرنسية والبولونية، وصدرت حول أعماله أبحاث كثيرة، بالعربية والفرنسية، ليبقى علما من أعلام الأدب العربي الحديث بشكل عام، والأدب الجزائري بشكل خاص. وقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة تعازيه لعائلة الراحل معتبرا وفاته خسارة كبيرة للأدب الجزائري والعربي. وقال في برقية التعزية إن «الطاهر وطار كان من الجيل الذي أخذ على نفسه تحصيل المعرفة بشق النفس يوم كان الطريق إليها عاصفا بالموانع الاستعمارية مكبلا بالحواجز الاجتماعية من فرط التخلف فآثر التحدي حتى نال حظه من المعرفة».