تونس: فيلم وثائقي حول «فن المزود»

يروي سيرة حياة فناني المزود ويتناول جانبا من التراث الموسيقي التونسي

TT

تتنوع الآلات النفخية في الساحة التونسية، ولكن المنتشر منها محدود ومن بينها على وجه الخصوص «الزكرة» (العيطة في الشرق)، والقصبة (الناي) والمزود وهو آلة نفخية تنتشر بكثرة في الأوساط الشعبية ويمارسها شبان رافقتهم تهمة الانحراف، لذلك لم تكن آلة المزود مرحبا بها في الأوساط الرسمية حتى وإن كانت أرقى العائلات التونسية تستدعي ما يعرف بـ«المزاودية» لإحياء مختلف مناسباتها السعيدة. هذه النظرة الاجتماعية الدونية جعلت الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة يمنع دخول «المزود» إلى وسائل الإعلام الرسمية من إذاعة وتلفزيون منذ سنة 1956 وإلى غاية سنة 1990 ولم يكن من الممكن برمجة أغنية شعبية معتمدة على «المزود» ضمن البرامج الإذاعية والتلفزية المختلفة. إلا أن هذه الآلة النفخية المغضوب عليها وعلى أصحابها الذين نعتهم المجتمع التونسي بـ«فئران السجن» استرجعت أنفاسها ودافعت عن نفسها وأصبح لها عشاق من مختلف الطبقات الاجتماعية من ذلك أن ممارسيها تحولوا من مجموعة من «المنحرفين» إلى نجوم لهذا الفن المختلف عن بقية الفنون. هذه الوضعية الشائكة جعلت المخرجة السينمائية التونسية سنية الشامخي تعد فيلما وثائقيا حمل عنوان «فن المزود»، الفيلم يمثل حدثا ثقافيا مهما باعتبار أن معظم ممارسي المزود يتوارثونه بصفة شفوية وقلما تجد معطيات دقيقة حول هذا الفن الضارب في أعماق التاريخ، كما أن تخصيص فيلم بأكمله لهذه الفئة الاجتماعية سيثير ردود فعل متباينة. الفيلم يروي سيرة حياة فناني المزود ويتناول العناصر الاجتماعية والموسيقية المميزة لجانب من التراث الموسيقي التونسي وهو الذي ظهر بالأساس في الضواحي السكنية المهمشة ومعظم ممارسي فن المزود هم من أبناء النزوح من الأرياف التونسية والذين صدمتهم المدينة بأضوائها ومشكلاتها، فكان مصير معظمهم السجون، لذلك يقسم فن المزود إلى 3 أصناف، صنف أول يعرف بالمزود الصوفي الموجه لمدح الأولياء الصالحين والذي كان في السابق منتشرا في الأوساط التونسية وتصاحبه مجموعة هامة من الطقوس، ويعتبر الفنان الشعبي مصطفى قتال الصيد من بين أهم ممارسيه، كما أنه كان من بين الفنانين الذين يغنون للجالية اليهودية في تونس وقد سقط في هوة النسيان... أما الصنف الثاني فيعرف تحت اسم «الزندالي» المرتبط بالسجون ويروي هموم المساجين ويؤرخ للأوجاع الاجتماعية التي تعاني منها الأحياء الشعبية... وصنف ثالث معروف بالمزود الراقص وهو موجه لإحياء الأفراح والمناسبات الاجتماعية السعيدة.

سنية الشامخي مخرجة الفيلم قالت لـ«الشرق الأوسط» إن فيلمها بني على مفارقة عجيبة، ففن المزود يلقى نجاحا جماهيريا كبيرا سواء داخل تونس أو خارجها، إلا أن السمعة الاجتماعية لم تتغير والنظرة لممارسيها بقيت تراوح مكانها وهو ما دعاها لتكريس سنتين لإعداد هذا الفيلم ومقابلة معظم نجومه. الشامخي قالت أيضا إن غايتها الأساسية من وراء هذا الفيلم هي إعادة الاعتبار للمزود كفن شعبي والدعوة إلى تأطيره وتنظيمه والتعريف بخصائصه والمرور به إلى مقاعد الدراسة في المعاهد الموسيقية التونسية... الشامخي التقت 12 ممارسا لفن المزود من بينهم صالح الفرزيط ولقبه الصحيح ليس «الفرزيط» بل بن سلامة وتلك الكنية اتخذها للدعاية فحسب، ومصطفى قتال الصيد ولقبه الصحيح هو بن رمضان وليس «قتال الصيد» وعبد الكريم البنزرتي وغيرهم من الأسماء المعروفة في هذا المجال. وقد خلصت سنية الشامخي من خلال بحوثها الميدانية في هذا الباب إلى تصنيف «المزاودية» فصالح الفرزيط يمثل المزود «الزندالي» المرتبط بالسجون ومعظم أغانيه كتبت كلماتها ولحنت داخل السجون التونسية، ومصطفى قتال الصيد متخصص في المزود الصوفي، أما المزود الراقص فيمثله كل من عبد الكريم البنزرتي وأشرف ومحسن الماطري، والماطري يعد أقدم ملحن للمزود في تونس وهو المكتشف للكثير من المواهب في هذا المجال... وتؤكد الشامخي أن جميع مقامات المزود هي نفس مقامات فن المالوف الأندلسي وهي بذلك ليست بعيدة عن مسامع التونسيين. الفيلم يدوم 52 دقيقة وهو يعيد الاعتبار لمجموعة من «المزاودية» الذين استقر معظمهم على حواشي مائدة البرجوازية النبيلة في الأحياء الشعبية المهمشة، إلا أنها مع ذلك تمكنت من إبداع مجموعة من الأغاني الشعبية الناجحة، على الرغم من مرور معظمهم (كما تذكر مخرجة الفيلم) باستهلاك الكحول والمخدرات ودخول السجون لنخبة يحتقرها المجتمع ويقصيها ممارسو الموسيقى... فن المزود تقول عنه مخرجته إنه «شريط يغني ويرقص ويزرع بذورا من الذاكرة الجماعية».

نشير إلى أن تلك الآلة النفخية العجيبة المعروفة باسم «المزود» تصنع من جلود الماعز ويثبت في أطرافها مزماران من القصب وربما لم تنس الماعز أن تمرر أصواتها عبر المزود فتلك الآلة تطلق أصواتا مجلجلة صاخبة تثير اهتمام كل الناس وهي بذلك تبقى وفية لأصولها التاريخية ولنسبها الذي لم يعد يخفى على أحد.