الثقافة الأنجلو ـ هندية في طريقها إلى الاندثار في الهند

تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأ موظفو شركة «الهند الشرقية» بالزواج من هنديات

بدأت أعداد هذه الأقلية، التي كان تعدادها نصف مليون شخص وتتحدر من أصول أوروبية، بالتناقص بسبب الاختلاط والتزاوج
TT

دخول منزل «لورانس دي سوزا المتداعي» المخصص لكبار السن، هنا في كالكتا، يعني زيارة لثقافة آخذة في الاندثار. ملامح هذه الثقافة تراها في أكواب شاي الإفطار التقليدية، والكتب المنتشرة هنا وهناك، مثل روايات أغاثا كريستي البوليسية، وميلز آند بون الرومانسية، والزيارة الأسبوعية لمصفف الشعر الذي يحضر لتصفيف شعر الأرملة العجوز على طريقة الأربعينات نفسها، والزيارات المتقطعة للخياط لصنع الحلل ذات الطراز القديم التي تعشقها السيدات البريطانيات من أصول هندية (أنجلو - إنديانز) وكانت رائجة في الأربعينات من القرن الماضي.

وتقول سيبيل ميرتاير، المدرسة المتقاعدة البالغة من العمر 96 عاما: «نستمع يوم الأحد إلى موسيقى السوينغ، على الرغم من أننا لم نعد نرقص كثيرا كما اعتدنا أن نفعل من قبل، لقد أصبحنا كالقطع المتحفية».

اختلف تعريف ما يطلق عليهم اسم الهنود الإنجليز (أنجلو - إنديانز) عبر الزمن، لكن المصطلح يعني، بحسب الدستور الهندي الحالي: المواطنين الهنود الذين يعود آباؤهم إلى أصول أوروبية، وكلا من جدي ميرتاير كان اسكوتلنديا.

وكغالبية النساء الأنجلو - إنديانز من بنات جيلها، عاشت ميرتاير طوال حياتها في الهند، ولم تسافر إلى بريطانيا، لكنها لا تتحدث سوى الإنجليزية. تعلمت ميرتاير في المدرسة بعض اللاتينية والفرنسية، وبعضا من اللغة البنغالية، للحديث إلى الخادمات.

قبل عام 1947 الذي شهد انتهاء احتلال بريطانيا للهند، شكلت هذه المجموعة، التي كانت تعرف أيضا في تلك الفترة بالمهجنين البيض السود والثمانية آنات (الآنة جزء من ستة عشر جزءا من الروبية الهندية)، أقلية بلغت ما بين 300 ألف إلى 500 ألف شخص، عمل غالبيتهم في السكك الحديدية والهيئات الحكومية الأخرى، وكان غالبيتهم يعيشون في المدن الواقعة على السكك الحديدية التي بنوها لأنفسهم من قبل البريطانيين، حيث ازدهرت ثقافتهم الخاصة، التي لا تنتمي إلى أي من الهند أو بريطانيا، لكن هذه الثقافة تشهد اليوم اضمحلالا سريعا، حيث يشكل جيل ميرتاير آخر حملة مشاعل هذا النوع من الثقافة.

لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن عدد أبناء هذه المجموعة الموجودة في الهند اليوم، فآخر إحصاء لهم كان ضمن تعداد السكان الذي أجري عام 1941. وترى روبين أندروز، عالمة الأنثروبولوجي في جامعة ماسي بنيوزيلندا أن الزيجات المختلطة وموجات الهجرة المتعاقبة التي تلت استقلال الهند عملت على خفض أعدادها إلى 150 ألفا على أقصى تقدير.

وتحول أبناء من بقوا من الهنود ذوي الأصول الإنجليزية إلى الاندماج في المجتمع الهندي، فتزوجوا من هنديات، وتحدثوا اللغة الهندية. ويقوم رئيس الهند بتعيين اثنين من الأنجلو - إنديانز كعضوين في البرلمان في كل دورة، لضمان التمثيل السياسي لهذه الأقلية الصغيرة. ولا تزال الثقافة متواجدة، إلى حد ما، في الأطباق الأنجلو - إنديانز، مثل الدجاج الريفي، وهو الطبق ذو النكهة المميزة المتبل بالثوم والخل والفلفل وصلصة الطماطم الحارة، التي يزين بها وجه الأرز، ويوضع اللحم على جانب الطبق.

يقول باري أوبراين، عضو البرلمان عن الأنجلو - إنديانز في مجلس ولاية البنغال الغربية إن غالبية الأنجلو – إنديانز مسيحيون، لكنه يعترف أن أعدادهم باتت قليلة لا تكفي لملء كنائسهم، كما كان الحال عليه من قبل. وأوضح أن أسلوب الحياة الأنجلو - إنديانز المميز، الذي يتبعه بشغف أشخاص، مثل ميرتاير، لم يعد موجودا الآن.

وقال أوبراين: «ستزول هذه الثقافة نهائيا في غضون سنوات، وستزول معها ذكرى فريدة لبريطانيا في الهند»، تعود هذه الثقافة إلى أواخر القرن الثامن عشر، عندما بدأ موظفو شركة «الهند الشرقية» في الزواج من هنديات بأعداد كبيرة، وصار لهم أولاد. بيد أن هذا التزاوج الثقافي تضاءل أواخر القرن التاسع عشر، نتيجة لهجرة المزيد من البريطانيات إلى الهند، لكن في غضون تلك الفترة كان الأنجلو - إنديانز قد حققوا ميزة ومكانة في الهند.

وعلى الرغم من أن أسلوب حياتهم كان بريطانيا أكثر منه هنديا، فإنهم نادرا ما كانوا يعاملون على أنهم بريطانيون؛ فقد كان البريطانيون بشكل عام يحتقرون الأنجلو – إنديانز، الذي يميلون إلى اعتبار أنفسهم أعلى مرتبة من الهنود.

لا يزال بعض الارتباك قائما بين الأنجلو – إنديانز حول ما يعنيه أن يكونوا بريطانيين، فعندما سئلت ميرتاير عن الطعام الذي تفضله قالت: «حسنا، الطعام الإنجليزي مثل الكاري وشرائح اللحم المشوي، والطعام الهندي مثل العدس».

ويشير أوبراين إلى أن الأنجلو – إنديانز يميلون إلى الانفتاح الاجتماعي، وفي بداية القرن العشرين، عملت كثير من السيدات الأنجلو – إنديانز خارج المنزل، في وقت لم يتسن فيه لكثير من الهنديات القيام بذلك، وأقاموا نظاما تعليميا قائما على اللغة الإنجليزية، قام على تمويله البريطانيون، وشبكة واسعة من النوادي الاجتماعية.

ويقول مالكوم بوث (83 عاما) الأمين العام الفخري لاتحاد الأنجلو – إنديانز في الهند: «كان كل الهنود يرغبون في أن يصبحوا (أنجلو – إنديانز)»؛ تعج جدارن مكتب بوث بصور الكثير من الأنجلو – إنديانز ذوي البشرة الشاحبة والعيون السوداء، كان بوث خلال المقابلة لا يزال مصرا على الحفاظ على إرثه، فكان يرتدي حمالات سراويل تشبه نمط حياة الخمسينات.

يعرّف بوث، مهندس السكك الحديدية السابق، الأنجلو – إنديانز بصورة أدق من الدستور، فيرى أن الغوانز، الهنود من الأصول البرتغالية والفرنسية، على الرغم من تعريف الدستور الذي يقبل أي أصول أوروبية من جهة الأب، بداعي أنهم حصلوا على وظائف ومميزات أخرى كانت خاصة بالأنجلو – إنديانز.

إلى جانب المزايا التعليمية والاجتماعية تلقى الأنجلو – إنديانز رواتب أكثر تميزا خلال الحكم البريطاني، فيوضح بوث أن مهندس القطارات البريطاني كان يتقاضى خلال أربعينات القرن الماضي 300 روبية شهريا، في حين يحصل الأنجلو – إنديانز على 200، والهندي على 100.

كانت وفاة الراج صدمة تطلبت من الأنجلو – إنديانز عقودا للخروج من أزمتهم والتغلب عليها، فقد ترك الكثير من الأثرياء وذوي المهارات الهند، واستقروا في الخارج.

أما من واصلوا العيش في الهند ففقدوا المميزات التي اعتادوها. فقد توقف تمويل الحكومة لمدارس الأنجلو – إنديانز على سبيل المثال عام 1961. وبعد إلغاء عقود عمل أعداد منهم، فقدوا قدرتهم على الحديث باللغة الهندية أو اللغات الهندية، وقضي على كل فرصهم في الحصول على عمل.

لا تزال العزلة والفقر اللذان نتجا عن ذلك يطاردان منازل الأنجلو – إنديانز المتقاعدين، من أمثال المنزل الذي تعيش فيه ميرتاير، وقد كان ضخما، ثم أضحى سكانه اليوم أبعد ما يكونون عن الترف؛ حيث تتقاضى ميرتاير معاشا سنويا يبلغ 65 دولارا.

بيد أن أوبراين يرى أن حظوظ الشباب الأنجلو - إنديانز باتت اليوم مرتفعة؛ فمهاراتهم في اللغة الإنجليزية، إضافة إلى ما تصفه أندروز، عالمة الأنثروبولوجي، من تنشئتهم الغربية، تجعلهم من المرغوب فيهم من قبل الشركات الدولية وشركات التعهيد الهندية.

وقال أوبراين: «عندما تذهب إلى مقابلة في شركة دولية باسم مثل أوبراين، فسينم اسمك عن أصولك الغربية ومهاراتك اللغوية». ويوافق صامويل موسى، مستشار التوظيف في شركة «كاتاليست كونسالتنغ سرفيسز»، وكالة تشغيل في كالكتا، فيقول: «طلاقتهم في اللغة الإنجليزية تجعل من السهولة بالنسبة لهم الحصول على وظائف في الشركات الدولية وخدمات العملاء في شركات الاتصالات».

غريغ فرانسيس، الذي يبلغ من العمر 30 عاما، عمل أجداده في السكك الحديدية، ويعمل هو الآن في خدمة العملاء في شركة «آي بي إم» في غورغاون، على أطراف مدينة دلهي، حيث توجد مقرات الشركات الدولية، وحيث يدرب الهنود على التعامل مع الغربيين، يقول: «إنهم بحاجة إلى الكثير من التعلم».

يرى فرانسيس أن حياته جيدة، لكنه لا يستطيع أن ينسى أن أفضل أيام الأنجلو - إنديانز كانت في الماضي. وقال: «أشعر بالحنين إلى الأيام الخوالي، على الرغم من أنني لم أشهدها».

* خدمة «نيويورك تايمز»