«أسواق بيروت»: فخامة التسوق على أطلال ذاكرة شعبية

تجمع أهم الماركات العالمية والمطاعم تحت سقف هندسة تراثية متطورة

أسواق بيروت بهندستها التراثية المتطورة («الشرق الأوسط»)
TT

بقيت الأسماء وتبدلت المعالم، لبست المدينة ثوب التمدن من دون أن تنزع عنها روحها التقليدية الهندسية، وإن ساهم وقع الأولى الباهر في خطف الأنظار على حساب الثانية. من أسواق شعبية مركزية للخضار والفاكهة والألبسة والأزهار والجواهر يقصدها اللبنانيون من مختلف المناطق، حملت كل منها اسما يدل عليها وعلى البائعين فيها، إلى أسواق مفتوحة ذات «خمس نجوم» صممها ونفذها مهندسون معماريون لبنانيون وأجانب من حملة جوائز عالمية في ميدان التصميم المعماري، لتضم بين حناياها أفخم المحلات وأرقى الماركات العالمية التي توزعت على مساحة نحو 150 ألف متر مربع، يتنقل زائرها بين زواياها سيرا على الأقدام. ففي وسط العاصمة اللبنانية بيروت بنيت على أطلال أسواق الماضي وذاكرته التي اندثرت أسواق جديدة تحولت إلى ذاكرة حاضر تزخر بتفاصيل يوميات هذه المدينة التي لا تهدأ حركتها وتواكب التطور، ونجحت في أن تتحول إلى نقطة جذب السائح واللبناني في الوقت عينه. من سوق الطويلة وسرسق وسوق الصاغة والإفرنج إلى سوق الجميل والبازركان وغيرها من الأسواق التي لا تزال حاضرة من خلال أسمائها في ذلك «المجمع»، هي أسماء بالتأكيد تمثل لمن عاصرها عصارة أهم ذاكرة في تاريخ هذه المدينة «المعمرة» منذ آلاف السنين، ولا سيما في عصرها الذهبي قبل بدء الحرب الأهلية في عام 1975، «تاريخ العودة إلى الوراء». لكن اليوم وبعد نحو 25 سنة عادت الأسواق كغيرها من المعالم اللبنانية لتنتفض من جديد وتستقطب اللبنانيين والسياح كوجهة تسويقية شاملة تزينها أهم المحلات التجارية والماركات العالمية التي لم يتردد أصحابها بافتتاح فروع لها هنا، وباتت مقصدا للتسوق وتمضية الوقت والترفيه في الوقت عينه نظرا إلى المطاعم التي افتتحت مؤخرا في ساحتها بانتظار التوسع الأكبر، لا سيما أنه من المتوقع أن يتم افتتاح ما يزيد عن 15 مطعما، فتح منها 3 حتى الآن، إضافة إلى مجمع لصالات السينما.

يتذكر المؤرخ والأستاذ الجامعي حسان حلاق عصر هذه الأسواق الذهبي وموقعها الأساسي في الخريطة اللبنانية بشكل عام والبيروتية بشكل خاص. ويقول: «كانت تتميز أسواق بيروت بسورها التاريخي وبأبوابها السبعة التي يقفل ستة منها عند غروب الشمس ويبقى السابع مفتوحا حتى موعد آذان العشاء قبل أن يقفل نهائيا على من في داخله ليعاد فتحه في الصباح. وبالتالي فكانت تجتمع تحت سقف هذه (البقعة) من بيروت، الأسواق التجارية المتخصصة، وكان لكل سوق اسمها الذي يميزها عن غيرها، فمثلا سوق سرسق نسبة إلى آل سرسق، الأسرة البيروتية، وسوق «إياس» التي استمدت اسمها من الأسرة الدمشقية «إياس»، وسوق الطويلة نسبة إلى عائلة مسيحية بيروتية سكنت في المحلة... وهناك أسواق أخرى حملت اسمها بناء على تخصص تجارها، كسوق الصاغة وسوق النجارين والنحاسين والحدادين وسوق القطن والجوخ وسوق القطايف، إضافة إلى سوق البازركان، وهي (السوق) في التركية، وهي السوق التي كانت تهتم بخياطة الملبوسات العربية التقليدية... وكانت هذه الأسواق تمثل الحل الذي لا بديل عنه أمام اللبنانيين للتسوق، ولا سيما قبيل الأعياد».

ويلفت حلاق إلى أن مرفأ بيروت كان يمد هذه الأسواق بكل البضائع والاحتياجات المستوردة من الشرق والغرب ومن بعض مناطق جبل لبنان مثل الحرير. ويضيف: «وفي القرن الـ19 كانت أسواق بيروت هذه تعج ليس فقط بالتجار اللبنانيين، بل كانت مقصدا للتجار القادمين من سورية والأردن وفلسطين وحتى بلدان المغرب العربي ومن فرنسا. لكن وفي منتصف القرن عينه وبعدما توسعت التجارة في بيروت، بدأت النشاطات الاقتصادية والتجارية تتوسع بدورها، لا سيما بعد تزايد عدد السكان، الأمر الذي جعل أبناء تجار هذه الأسواق وأحفادهم يغردون خارج سرب السوق ويفتتحون محالا خاصة بهم في ضواحي المنطقة، حاملين معم الألقاب والأسماء نفسها». ويلفت إلى أن الحرب اللبنانية قضت على كل معالم هذه المدينة ولم يبقَ منها إلا عدد من المساجد والكنائس وبعض الأبنية التراثية التي تعود إلى العهد العثماني مثل السراي الكبير.

وفي مقارنة بين الأسواق القديمة والحالية يرى حلاق أن تلك الموجودة رغم أنها تمثل الوجه المشرق للعاصمة اللبنانية، فإنها تفتقد الروح التراثية والعثمانية التي لطالما طبعتها، باستثناء بعض المعالم القليلة مثل المدرسة القرآنية التي تعرف بـ«زاوية ابن عراق الدمشقي»، وما يعرف بـ«بركة العنتبلي» مثلا، ذاك المقهى الذي كان من أهم الملامح السياحية لهذه الأسواق، والذي اشتهر بتقديمه أطيب المشروبات من العصائر والسوس والجلاب وحلوى الرز بالحليب... لكن هذه البركة اليوم لم تعد إلا كونها موقعا يمثل هذا المقهى ويفتقد ما كان يعرف بالأصالة «العنتبلية». كذلك فإن زاوية الإمام الأوزاعي الموجودة في سوق الطويلة لم تعد على الصورة التي كانت عليها، وبنيت من الرخام بعدما كانت مصنوعة من الحجر الرملي القديم.

وفي حين تقع هذه الأسواق على مقربة من واجهة العاصمة البحرية التي تضم أفخم الفنادق في لبنان، يلفت حلاق إلى أن الأسواق التجارية كانت تحتوي أيضا على خانات وفنادق شعبية تشكل ملجأ الوافدين من البلدان المجاورة للإقامة فيها بأسعار زهيدة، منها «خان أنطون بك» و«خان حمزة وسلوم». كذلك ومن جهة أخرى يضيف حلاق أن «هذه الأسواق التي لطالما شكلت مقصد الفقير والغني على حد سواء لتمضية الوقت والترفيه في مقاهيها وتناول ساندويتش الفلافل مقابل ربع ليرة لبنانية، صارت اليوم، ومع تغير ثقافة الأسواق ومتطلبات الحياة، مقتصرة على فئة اجتماعية معينة. تجد فيها الرفاهية التي تطمح إليها، وشراء أفخم الماركات بأسعار خيالية. والأمر نفسه ينطبق على المأكولات المقدمة في المطاعم، حيث تساوى فيها سعر ساندويتش الفلافل مع طبق اللحم، بينما أقصى ما يحصل عليه الفقراء هو التنقل بين محلاتها وتأمل واجهاتها من بعيد».