السينما بين المفاهيم الفنية والسياسية

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا الدولي

هيام عباس في بطولة «ميرال»
TT

كانوا يقولون قديما: حتى الفيلم الذي لا يحتوي على سياسة هو سياسة، وبذلك عنوا أن الموقف الذي اختاره الذين صنعوا الفيلم لتفريغ الفيلم من أي قضية أو فكرة أو تعبيرات سياسية، هو سياسة في حد ذاته.

لكن إلى جانب أن الخلاف لا يدور اليوم حول هذا الموضوع، فإن السينما تتعرض إلى مزيج من الخلط بين المفاهيم الفنية والسينمائية بشكل عام، وما هو سياسي؛ الاحتفاء بفيلم لمخرج ما قد يكون رغبة في النيل مما يمثله إذا كان مناوئا له.

الجمهور يأتي ليبحث عن القصة وحدها ويعيد أحداثها إلى الأوضاع السياسية القائمة معتقدا أنه أكمل مهمة قام بها الفيلم وربما أضاف إليها. الأسئلة الصحافية تحاول التركيز على الجانب الواحد من الفيلم ليس إمعانا في فهم ذلك الجانب بل إحراجا لرأي في الفيلم لا يتفق الصحافي معه.. كل هذه الأمثلة وغيرها تسييس لما لا يلزم طبعا. هناك سياسة في كل شيء، لكن علينا أن نتذكر أن السينما (في السينما) تأتي قبل أي شيء آخر.

* «ميرال» الفلسطيني يعرض مع بدء مفاوضات السلام في واشنطن

* امتلك المخرج الأميركي جوليان شنابل ناصية العروض السينمائية في اليوم الثاني من أيام المهرجان بعرضه فيلم «ميرال» الذي يدور حول الموضوع الفلسطيني المعلق منذ 1948 بكثير من الحروب ومن دون حلول.

وإذ كانت شاشة المسابقة تكشف لجمهور كبير ازدحمت به الصالة آخر إسهامات الفن السابع في هذا الموضوع الشائك (نقد الفيلم أدناه) كان الاجتماع المنعقد في البيت الأبيض بين بعض أقطاب القضية لا يغيب عن بال كثير من المتابعين. هل هي صدفة أن يختار المهرجان عرض هذا الفيلم في هذا اليوم بالتحديد؟ ربما. لو سألت ستجد إجابات مبهمة وقد يحاول البعض القول إنها صدفة بالفعل، بينما سيبتسم البعض الآخر مخفيا كلمات تشي بأن المسألة «مدروسة».

مهما يكن، فإن اليوم لم يكن فلسطينيا فقط؛ بل كان تأكيدا على رغبته في تقديم أفلام جماهيرية عريضة تؤمن بيع التذاكر لاسترداد بعض الميزانية التي تصل إلى نحو خمسة عشر مليون دولار حسب تصريح سابق لمدير المهرجان الفني ماركو مولر. ففيلم أول من أمس «أسطورة القبضة: عودة تشن دجن» القائم على دمج التاريخ بالكونغ فو والمقاومة الصينية للاحتلال الياباني بالضرب السريع وفك الرقاب وغرز السكاكين، ليس الفيلم الوحيد من نوعه في إطار الدورة السابعة والستين، بل سنكتشف المزيد من تلك الأفلام، والفضل في ذلك يعود إلى علاقة متينة تربط ماركو مولر بالمنتجين القادمين من أقصى الشرق الآسيوي حيث مصانع أفلام الكاراتيه والنينجا والكونغ فو وكل إبداعات فنون القتال الشرقية؛ الأصلية منها والمطورة بالكومبيوتر. وفعلا كان هناك أمس عرض آخر خارج المسابقة لفيلم ثان من هذا النوع هو «مملكة القتلة» للمخرجين سو شاو بن وجون وو؛ الثاني كان عرف شهرته في هوليوود طوال الثمانينات وبعض التسعينات، لكنه وجد أن خطرا كبيرا يكمن لكل مخرج يعمل في هوليوود اليوم: إذا سقط لك فيلم مكلف واحد، احترق الفيلم وحرق مستقبلك معه. وهو لم يكن مستعدا لذلك فنقل نشاطه إلى هونغ كونغ حيث المخاطر من هذا النوع أقل بكثير، وهو يستطيع دوما العودة إلى هوليوود إذا ما غير رأيه ضمن المسابقة. الفيلم الياباني (الخالي من فنون القتال تماما) «غابة نرويجية» حمل ما يبحث عنه بعض الموجودين: الفيلم العاطفي المشغول بحس فني وحنكة أسلوبية. وهو مع «ميرال» كان أفضل المعروض. أما الفيلم الفرنسي «القلة السعيدة» لآندرو كوردييه فلم يكن أكثر بكثير من ثرثرة متواصلة وحركة قليلة.

في اليومين السابقين، وإلى الآن، حط على جزيرة الليدو عددا كبيرا من الضيوف، بينهم الأميركيون القادمون لحضور أفلامهم ومؤتمراتهم الصحافية: مجموعة الفيلم الأميركي «بجعة سوداء» ومنهم نتالي بورتمن، فنسنت كاسل والمخرج دارن أرونوفسكي، مجموعة فيلم «ميرال» من المخرج جوليان شنابل إلى الفلسطينية هيام عباس والمصري محمد متولي والهندية فريدا بينتو إلى جانب أعضاء فيلم «ماشيتي» الذي افتتح تظاهرة عروض منتصف الليل (فرصة أخرى لبيع مزيد من التذاكر) ومن بينهم المخرج والمنتج روبرت رودريغيز وبطل الفيلم داني تريو (الذي كان أول من تحدثنا إليه) وجيسيكا ألبا.

* زهرة تشق الصف والحل في أوسلو!

* أربع دول مشتركة في تمويل وتقديم فيلم «ميرال» لجوليان شنابل وهي فرنسا وإيطاليا والهند وإسرائيل. لكن الموضوع عربي مائة في المائة. جوليان شنابل الذي سبق أن عالج مواضيع الغربة في كل فيلم روائي أخرجه من قبل يعود إلى موضوعه هذا؛ إنما بملامح وجوانب جديدة تماما.

في «باسكيات» (1996) تناول حياة الرسام الأفرو - أميركي جان ميشال باسكيات الذي عاصر أندي وورهول في الستينات وصاحبه منذ انتقاله من الرسم على الأرصفة إلى محاولته شق طريقه كفنان ناجح وفي طي المحاولة انتقاله من غربته (قام بدوره جيفري رايت) الذاتية إلى عالم جديد عليه لم يستطع التأقلم معه كثيرا فصاحبته تلك الغربة كالظل.

بعده اتجه شنابل نحو موضوع متشابك آخر في فيلم عنوانه «قبل حلول الليل» (2000) عن حياة الشاعر والروائي الكوبي رينالدو أريناس (1943 - 1990) منذ طفولته وحتى نجاحه في الهرب إلى الولايات المتحدة بعد سجن ومعاناة يرصدها المخرج بمتابعة تحليلية مشبعة الأجواء. الفيلم الذي تصدح فيه فيروز بإحدى أغانيها الكلاسيكية الآسرة، يتحدث عن تلك الغربة في المكان الأول (كوبا) الذي لن تترك صاحبها حين الارتحال إلى المكان الثاني (نيويورك) بل - وكما في «باسكيات» - ستصاحبه كالظل.

غربة أخرى وثالثة نجدها في فيلم شنابل الصعب «الجرس الغائص والفراشة» (2007) وفيه رحلة كبيرة وطويلة لكنها لا تبرح جسد الصحافي جان- دو منذ تعرضه لحادث سيارة في مطلع الفيلم إلى نهايته. الحادثة تسببت في شلل وعجز كاملين لا يستطيع معهما سوى تحريك رموش عينيه، لكن الفيلم يكابد ما يكابده بطله من مشاق لأجل تجسيد النضال النفسي والإيمان بالمطلق الروحي متحولا إلى رحلة لا زهور فيها في ذات بطله وأخرى في خياله المحصور.

الآن في «ميرال» ينتقل جوليان شنابل إلى موضوع يمثل جانبا جديدا من الغربة: غربة الفلسطينيين - والكلام للفيلم - فوق أرضهم وضمن ثقافتهم ومجتمعاتهم. ما ينجزه هو عمل لا يخضع للتأويل السياسي: هو مع شخصياته الفلسطينية حتى تلك التي ترى في المقاومة المسلحة حقها المشروع. هذا التأييد لا ينضوي على موافقة مطلقة، بل على تفهم عميق وتبرير واضح وإن كان في النهاية يرى أن الحل لا يكمن في هذا النوع من النضال، ولا في العنف، بل في الالتفاف حول الاتفاق السلمي. وكون الفيلم أنجز قبل المساعي الدائرة حاليا لإنجاز هذا الاتفاق، فإن ما يراه المخرج نموذجا لتحقيق هذا السلام، هو قرارات أوسلو التي صدرت سنة 1992 التي نصت على قيام دولتين متجاورتين.

إلى ذلك، تطرح بطلة الفيلم ميرال (تقوم بتجسيدها الهندية فريدا بينتو) فكرة يعتبرها المخرج جيدة، وإن كانت مثالية، وهي قيام دولة ديمقراطية واحدة تشمل كل العرب وكل اليهود. تطرحها ميرال لكنها لا تخفي سعادتها بحصولها على دولة مستقلة وتنقل الخبر إلى أبيها المسالم (ألكسندر صديق) قبل رحيله تاركا أحلام جيله والأجيال السابقة وراءه.

الفيلم مبني على رواية الصحافية رولا جبريل حول شخصية هند الحسيني التي وجدت أن الحفاظ على الأرض والوطن والهوية الفلسطينيين لا يمكن أن يتم إلا عبر بوابة الثقافة والتعليم. لهذه الغاية حولت منزلا كبيرا ورثته عن أبيها لجمع الأطفال اليتامي (غالبا) من طرق القدس ومنازلها المهدمة إثر حرب 1948 وتخصيص حياتها كلها لهذه الغاية. أجيال عدة من الفلسطينيين تعلموا هناك وتخرجوا. لكن الفيلم لن يتحدث عن هذا الجانب وحده إلا في ربع الساعة الأول مقدما الفلسطينية هيام عباس في دور السيدة الحسيني والأميركي ويليام دافو في دور ضابط أميركي من الأمم المتحدة يسعى، إثر الحرب الأولى، إلى رعاية ومساعدة السيدة الفلسطينية في تحقيق ما ترغب.

بعد ذلك، وفي فصل ثان، ننتقل إلى الستينات، تلك التي شهدت حرب 1967 (والمخرج في الحربين يستعين بلقطات وثائقية سريعة لشحن فيلمه بالوقائع). هنا نتعرف على امرأتين سجينتين؛ إنها مرحلة من الفيلم مثيرة للاهتمام لكنها تتبدى لاحقا كجسر يربط الفصل الأول بالفصل الطويل الثالث. نادية (ياسمين المصري) هي امرأة هاربة من كنف عائلتها ولسبب جوهري: زوج والدتها يعتدي جنسيا عليها وهي لم تعد تطيق ذلك. تنتقل للعمل في الحانات وتمتهن الرقص وتدمن الشراب. ذات يوم في حافلة إسرائيلية تلحظ امرأة يهودية أن زوجها يتبادل النظر مع نادية فتصفها بالعاهرة. تقوم نادية بضربها على أنفها وتدخل السجن لستة أشهر نتيجة ذلك. هناك تتعرف على المرأة الثانية فاطمة (رُبَى بلال) المسجونة التي كانت تعمل ممرضة لكنها ساعدت مصابين أردنيين على الهرب بعدما كانوا قاتلوا في حرب 67. تنضم بدورها إلى المقاومة في ذلك الحين وتفجر صالة سينما مودية بحياة من كان يحضر فيلم رومان بولانسكي «ازدراء» فيها.

مع خروج نادية من السجن تتزوج من جمال (ألكسندر صديق) لكن حياتها مختومة بمزيد من اليأس والإدمان وفي النهاية لا تجد أمامها سوى الانتحار غرقا. بذلك تدخل ابنتها ميرال طفلة إلى مدرسة هند الحسيني ليلتقطها الفيلم وقد أصبحت فتاة في السابعة عشرة من العمر تنخرط لحين مع شباب الانتفاضة يزكيها في ذلك ما تشهده من اضطهاد وإجحاف معاملة من قبل الجيش الإسرائيلي وما يتبع ذلك من هدم منازل وتشريد عائلات كما نرى في مشهد سيجعل المشاهد يدرك مكمن القلب لدى المخرج وفيلمه. فهو يرصد هنا مزيدا من الدوافع والمبررات الكفيلة بانتفاضة أي شعب من دون أن يعمد إلى تمييعها بمواقف مضادة من قبل توازن ينشده.

على الرغم من كل ذلك، الثابت أنه لو كان من إخراج سينمائي فلسطيني، لنقل محمد بكري أو رشيد مشهراوي، لما تم عرضه في المهرجان أو على الأقل في مسابقته على أساس أنه معاد لأحد طرفي النزاع وهو ما لا يحبذه المهرجان أو الوسط الإعلامي بشكل عام.

بعيدا عن هذه الجوانب السياسية، هذا ليس أفضل فيلم لشنابل. إنه فيلم جريء وينجح في إيجاد زاوية إنسانية يتعامل بها مع هذا الموضوع المعقد، إلا أن التنفيذ مرتب في مواقع عدة (خاصة في البداية) والتمثيل غير متساو بين شخصياته (بعضها أفضل من بعض) والدراما المنسوجة تبدو مشتتة بسبب من تقسيم الفيلم إلى مراحل ثم إلى شخصيات يتابعها الفيلم بنظام زمني مما يجعل قصة ميرال تأتي متأخرة.

الوسيلة التي وجدها شنابل مناسبة هي اختصار حكاية الجيلين السابقين وولوج حكاية الجيل الثالث كما تجسده ميرال وبعض رفاقها. لكن معالجة كل ذلك تتم بصرف النظر عما يخلقه الاختصار والإيجاز من سياق مضطرب، لأن المخرج لن يعمد إلى أسلوب ملحمي (لنقل كما «العراب») لينسج تتابعا سلسا من جيل لآخر.

كذلك اختيار المخرج للهندية بينتو لكي تقوم بدور ميرال الفلسطينية ليس موفقا بالضرورة. بينتو لديها الملامح، لكنها تمثل ما لا تستطيع أن تجسده. على ذلك، فإن بعض أهم رسائل الفيلم السياسية تكمن في المرحلة التي تؤدي بطولتها. إلى جانب مشهد قيام الجرافات العسكرية بتدمير المنزل، هناك مشهد تعذيبها من قبل المحققين العسكريين بتهمة انتمائها إلى فصيل من منظمة التحرير الفلسطينية يعمل داخل وخارج الجدول السياسي للمنظمة.

هذا فيلم قسم الحاضرين هنا إلى نصفين، وإذ سيبدأ عروضه الأوروبية في الشهر المقبل، وعروضه الأميركية في ديسمبر (كانون الأول)، فإنه بالتأكيد سيشهد الانقسام ذاته بين الجمهور العريض إنما بنسبة أقل حدة. مع وجود قاعدة عريضة تؤيد السلام في الوقت الذي تجد فيه أن الفلسطينيين عانوا ما فيه الكفاية من غيابه، فإن الفيلم سيحظى بين المشاهدين بغالبية من المؤيدين لما يطرحه. وسيكون آخر الكلام هو الحكم على مستواه الفني.

* أخبار من داخل المهرجان وخارجه

* المنتج التونسي طارق بن عمار حضر حفلا أقامته شركة «وينستين» منتجة «ميرال» فوق جزيرة سان ماركو احتفاء بأعضاء جمعية مراسلي هوليوود الأجانب الموجودين في المهرجان. الفيلم من إنتاج شركة الأخوين وينستين ومن تقديم طارق بن عمار الذي سبق له أن قدم العام الماضي فيلم الافتتاح «رياح» لجوزيبي تورناتوري.

* حديث عن تعاون آخر بين الممثلين جيسيكا ألبا وداني تراييو اللذين نراهما حاليا يؤديان بطولة «ماشيتي». الحديث مغلف بالاحتمالات لكن المخرج روبرت رودريغيز يرعاه من دون أن يؤكد ما إذا كان يريد إنتاجه أو إخراجه أم لا.

* الممثل الجزائري رشدي زم موجود في الفيلم الفرنسي المتسابق «الأقلية السعيدة» لاعبا شخصية زوج لفرنسية شقراء يقع في حب فرنسية ذات شعر أسود.

* احتل فيلم «الأميركي» المركز الأول يوم افتتاحه في 1 سبتمبر (أيلول) الحالي. الفيلم من إنتاج وبطولة جورج كلوني الذي كان يأمل أن يقوم المهرجان باختيار فيلمه هذا للافتتاح، لكن المهرجان فضل عليه فيلم «بجعة سوداء» الأقل قيمة منه.

* تتسبب أنجلينا جولي في «خضة» موجعة لشركة «وورنر» حاليا بعدما رفضت القبول بالعرض المالي المقدم من قبل الشركة أجرا لبطولتها لفيلم «جاذبية». ميزانية الفيلم تبلغ حتى الآن ثمانين مليون دولار والعرض الذي تسلمته جولي يقترب من سقف الخمسة عشر مليون دولار لكنها تطلب عشرين مليونا لدور تعتبره سيكون أساسيا في جذب الجمهور إلى الفيلم الخيالي العلمي الذي سيخرجه الإسباني ألفونسو كوارون بالأبعاد الثلاثة.