المهرجان في لحظاته الرومانسية وبحثه في فراغات الحياة

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا الدولي

صوفيا كوبولا
TT

المنتج بوب وينستين يقف في حفلة أقيمت لأعضاء جمعية مراسلي هوليوود الأجانب ويقول: «أنا يهودي كما تعلمون، لكني أعلم أن الوضع يجب ألا يستمر كما هو عليه. أنا مع الحل الذي يضمن للفلسطينيين دولة مستقلة وضد التطرف على أي جانب».

مخرج فيلم «ميرال» الذي أنتجه وينستين يقف ليقول: «أنا يهودي ابن عائلة متدينة، لكني مؤمن بعدالة القضية التي يطالب بها الفلسطينيون، وأريد أن أراهم يعيشون في سلام حقيقي، جنبا إلى جنب مع اليهود في دولتين جارتين».

ثم يسرد حكايته الطويلة مع الفيلم قبل أن يعطي الحديث للمنتج الآخر للفيلم طارق بن عمار الذي قال: «لا يمكن أن أضيف الكثير مما سبق قوله، لكني أريد لفت النظر إلى موضوع مهم، هذا فيلم فلسطيني القلب والموضوع، ينتجه يهودي ومسلم، ويخرجه يهودي والمنتج الثالث، غير الموجود هنا، هو كاثوليكي ملتزم. هذا يعني بالنسبة لي أن الحل أمر مطلوب من كل الفرقاء ومن كل الأديان، ونحن دائما كنا ضد التطرف في المواقف، سواء من الجماعات الإسلامية المتشددة أو الجماعات اليهودية المتطرفة. في النهاية نريد للجميع أن يعيشوا في أمان».

التصفيق كان حارا لهذه الكلمات، والفيلم، وقد دخل المهرجان يومه الرابع، لا يزال صاحب أقوى تأثيرا بين الأفلام المشاهدة، وقد عرض منها عدد كبير في شتى التظاهرات. وإذا ما كان الموضوع الفلسطيني ساخنا، وبعض سخونته تعود إلى المحادثات الجارية في واشنطن، فإن الموجودين هنا لديهم المزيد من المشاغل والكثير من حلقات النقاش. ما يعرض للآن يشي بدورة جيدة ويستحق التداول، ولا يمكن صرفه بكلمات استحسان، عامة أو استياء، مطلقة.

* حياة المشاهير

* فيلم الصباح كان من صنع المخرجة الأميركية صوفيا كوبولا، وعنوانه «في مكان ما»، والعنوان موح ومرتبط بصلب ما تطرحه المخرجة في إطار حديثها عن بطلها جوني ماركو. طبعا الذين لم يعجبهم الفيلم أطلقوا عليه عنوانا جديدا «إلى لا مكان» وهناك بالفعل مطارح يبدو فيها الفيلم كما لو أنه لا يتجه إلى مكان محدد، وأخرى تتساءل فيها، إذا ما كان النقاد أخطأوا حين أعابوا على صوفيا تمثيلها ما سد نفسها عن مواصلة التمثيل وحولها إلى مخرجة.

لكن الفيلم في عمومه جيد، وبعد لفات حول الموضوع، ومع الأخذ بعين الاعتبار مشكلات محددة في التقديم، فإن الباقي، وهو الأهم، دراما خاوية خفيفة حول حياة نجم سينمائي. وهو لم يكن يعلم ذلك إلا من بعد تجربة يكتشف فيها هذا الفراغ الذي يعيش فيه. لكن التجربة تمر به عابرة وتعيده إلى فراغاته. هذه المرة تنقله من المدينة إلى الصحراء في تماثل رمزي واضح.

بطل الفيلم هو جوني ماركو (ستيفن دورف) يكسر يده، بينما كان ينزل درجات إثر حفلة ساهرة ويعمد إلى احتلال شقته في فندق شاتو مارمونت القائم في مرتفعات بيفرلي هيلز، المعروف عنه كواحد من أغلى فنادق لوس أنجليس. جوني يطلب مسرات عابرة كعادته في الحياة، وكعادة نجوم السينما أو بعضهم على الأقل. ربما لهذا تركته زوجته واحتفظت بابنته (إيلي فانينغ) التي تأتي لتزوره ثم تمضي، ثم تعود إلى زيارته قبل أن تتصل به زوجته لتطلب منه أن يأخذ باله عليها، لأنها سوف تذهب بعيدا، حيث تريد أن تختلي بنفسها وتفكر. «في العاشر من الشهر»، تقول له: «لك أن تدخلها المخيم» (معسكر للطالبات تم تسجيل الفتاة الصغيرة فيه). جوني، الذي على أهبة السفر لترويج فيلمه في إيطاليا يوافق. فالأيام القليلة التي عاود فيها التعرف على ابنته، ساعدته على اكتشاف براءتها ومواهبها الفنية والشخصية. يأخذها معه إلى إيطاليا، وبعد توزيع جائزة عليه ينسل من الفندق ويعود مع ابنته إلى هوليوود، حيث يلتقطان بعض الأيام الإضافية من تلك العلاقة الإنسانية بين الأب وابنته. حين يودعها. يعود إلى الفندق ويبكي. وبعد ذلك سنراه يركب سيارته الفيراري السوداء السريعة وينطلق - في لقطات طويلة معبرة - عبر الشوارع العريضة والسريعة، منتقلا من زحمة المدينة، إلى أطرافها الأقل زحاما، ومنها إلى الصحراء بعيدا. كان قد طلب من الفندق أن يجمع حاجياته في صندوق «وسأتصل وأترك عنواني الجديد». الآن نعرف أنه لن يكون عنوانا في لوس أنجليس، وربما لن يتصل بالفندق طالبا أغراضه قبل فترة طويلة، ولو أننا لن نعلم إلى أين ستنتهي رحلته.

يتطلب الفيلم فهما لما تحاول المخرجة بثه من أبعاد حول النفس البشرية، والتعرف إليها كساخرة من الحياة التي يعيشها السينمائيون في هوليوود، وحياة الأضواء الاحتفالية في إيطاليا. بل لا ينجو الصحافيون من معاملة كوميدية حين تكتفي بتصويرهم من خلف رؤوسهم في مشهد مؤتمر صحافي يلقون فيه أسئلة لا تعني الممثل في شيء (هذا هو المشهد الذي تم طلبي لتمثيله، وأحمد الله أني لم أوافق). لكن هناك مشكلة في ربع الساعة الأول من الفيلم، حينما تؤسس المخرجة شخصية بطلها من أول دقيقتين، ثم تواصل تأسيسها تكرارا حتى نهاية تلك الدقائق الخمسة عشر.

بعد فيلمها التاريخي «ماري أنطوانيت» تختار المخرجة العودة إلى الحجم الصغير والنوعية المستقلة من الأفلام على شاكلة ما حققته من قبل، خاصة حينما أخرجت «مفقود في الترجمة» سنة 2004. وهناك أكثر من تلاق بين هذا الفيلم وسالفه: النجم المنسحب من الضوضاء (في مرحلتين مختلفتين)، الأحداث التي تقع في فندق، والغربة التي تصيب كل طرف لكونه يبحث عن عالم جديد أكثر ألفة ولا يجده.

أفضل ما في الفيلم أن المشاعر مستوحاة وليست ظاهرة. العاطفة مساقة بكثير من الرقة وليست مفروضة، وما يود الفيلم بحثه مطروح من دون خطوط تحت مواده على الرغم من بعض التكرار في منواله. المخرجة تترك لنا استلهام ما تتحدث فيه وعندها ثقة في جمهورها، ربما أكثر بقليل مما ينبغي. واختيارها لممثليها الرئيسيين ستيفن دورف وإيلي فانينغ ملائم تماما. هذا الممثل يستحق أن يقف في البطولة دائما، وربما هذا الفيلم سيمنحه الفرصة التي يبحث عنها.

* رومانسية بديعة

* في النوع ذاته من العلاقات العاطفية، إنما خارج إطار العائلة الواحدة، يقدم «غابة نرويجية» للمخرج تران آنه هونغ، حكاية مثيرة وشائكة. إنه فيلم عن شاب بين امرأتين، واحدة يحبها والأخرى تحبه، مأخوذ عن رواية نشرت سنة 1987 بقلم هاروكي موراكامي، تقع أحداثها في الستينات. وهناك سبب لاختيار تلك الفترة لا يتطرق الفيلم إليه: إنها الفترة التي كانت اليابان تعيش فيها ثورة معرفية تتناول تقريبا كل شيء بما في ذلك السلوك العاطفي والجنسي بين أفراد الجيل الشاب. ليس أن هذا السلوك هو كل ما يشغل بال الفيلم (ويظهر الفيلم المشاغل الأخرى، كالتظاهرات الطلابية، ويبقى بعيدا عن بحث موجباتها) لكنه ما تمحورت عليه الرواية التي ينقل منها المخرج أهم أحداثها. إن كان الفيلم لا يتطرق إلى السبب، فإنه لا يغفل مطلقا أهم ما في الرواية من أحداث، متعاملا مع الرقعة الواسعة من المشاعر التي تتبادلها الشخصيات أو تعبر عنها. لكون الشخصية اليابانية عادة شخصية كابتة لعواطفها، فإن ذلك يتطلب من المشاهد معايشة لأجواء خاصة، أشبه بالشعائر، لكي يصل إلى لب المقصود في فيلم منفذ بأسلوب فني مثير للاهتمام، وسردي أقل حرارة مما يجب خاصة في نصفه الثاني، وحتى ما قبل نهايته.

موراكامي هو الكاتب نفسه الذي كانت السينما اليابانية قد استوحت من بين أعماله الفيلم الجيد «توني تاكيتاني» الذي أخرجه سنة 2004 جون إيتشيكاوا، حول ذلك الرجل الثري الذي تزوج من امرأة توجه عاطفتها صوب المشتريات فقط. تشتري كل شيء وتعيش ما تشتريه بهوس شديد. زوجها لا يعاني ماديا من ذلك بقدر ما يعاني عاطفيا وهو يفرض عليها التوقف عن هذا الهوس من دون أن يتوقع الخاتمة الحزينة التي تؤول زوجته (والرواية كما الفيلم) إليها.

هنا في أجواء مختلفة: التمهيد يحكي عن شابين صديقين وفتاة، هي صديقة أحد الشابين في علاقة لا تزال عذرية. لا نعرفها على هذا النحو إلا لاحقا في الفيلم، لكن قبل ذلك سنشهد الشاب وفتاته يتبادلان نظرات حب وتقدير، ثم ينتحر الشاب من دون تفسير لذلك. الشاب الثاني واسمه واتانابي (كينشي ماتسوياما) يترك البلدة إلى طوكيو مبتعدا. يبدأ بالدراسة وتجنب المظاهرات الطلابية من حوله ويصب اهتمامه على إيجاد عمل وبعض اللهو، مستعينا بخبرة زميل له في الدراسة. هذا إلى أن يلتقي بالفتاة التي كانت صديقة لصديقه، ويرتبط معها بعلاقة عاطفية. تكشف له لماذا بقيت علاقتها بالصديق الغائب عذرية، ونفهم هنا أن هذا السبب هو الدافع لانتحاره. بعد ذلك هناك مساحة كبيرة من الفيلم لا تقع فيها أحداث تنتقل بالدراما إلى مصاف أعلى، حتى مع دخول فتاة أخرى اسمها ميدوري (كيكو ميتزوهارا) على الخط راغبة في التعرف على واتانابي الذي قد لا يمانع، لولا أن قلبه في حب الفتاة الأولى، وعليه أن يختار.

المخرج هونغ يسعى لدراما عاطفية من النوع الذي لم نعد نراه في أفلام اليوم. النوع الذي يستمد منه المخرج مبررات لتناغم بين الكاميرا والممثل والخلفية. تلك المشاهد الداخلية ليست ذات شأن، لكن تلك الخارجية تحمل كل ما يحتاجه المرء للذوبان في الطبيعة الربانية الخلابة. بصريا ثرية في جمالها وتنوعها، ولا يتأخر الصوت عن المواكبة، ناقلا حسا جماليا كاملا. فهل غاية المخرج تكوين فيلم شعري؟ على الأرجح، ولكن تقدير هذا النحو من الشعر لن يكون بين جمهور غربي، أو عربي، اعتاد مشاهدة كل الأفلام المصنعة والمعلبة المنهمرة على شاشاته، بل أساسا لدى الجمهور الياباني والجمهور الآسيوي المحيط الذي يعرف الكاتب ويعرف العالم الذي تقع فيه الأحداث، وأهمية النثر التي يتولى الفيلم سرده. ليس بالفيلم المتكامل، لكن فيه من الصفات ما يجعله متميزا باستحقاق.