كتّاب نوبي («الشرق الأوسط»)
TT

يشكل متحف النوبة بأسوان بانوراما حية للتاريخ المصري القديم ومركزا علميا لعرض التراث الحضاري النوبي، بالإضافة إلى عرضه للنواحي الجيولوجية والثقافية لأقدم العصور التاريخية وحتى بناء السد العالي، ويكاد يكون هو المتحف الأول من نوعه عالميا لانقسامه إلى جزأين: الأول يضم العرض المتحفي الذي ينفرد بعدد من القطع الأثرية النادرة التي تحاكي حياة النوبي القديم، والثاني متحف الهواء ويضم نموذجا حيا لنهر النيل بمنابعه وشلالاته، وبيتا نوبيا أشبه بالبيت الحقيقي، وعددا من المقابر التي تضم رفات النوبيين القدماء.

نشأت فكرة متحف النوبة (جنوب مصر) إبان الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة في الستينات والسبعينات من هذا القرن ليضم التراث الأثري والتاريخي والحضاري والبيئي لبلاد النوبة.

بدأت الدراسات لمشروع المتحف عام 1980، وشكلت لجان من المجلس الأعلى للآثار، واليونسكو، وخبراء من الجامعات المصرية، وأسندت التصميمات الهندسية وإنشاء المتحف إلى المعماري محمود الحكيم، والعرض المتحفي إلى المهندس المكسيكي بيدرو راميرز فاسكويز. وكانت الفكرة التي قام عليها المتحف النوبي هي «استخدام التكوينات الصخرية لعرض التماثيل واللوحات الأثرية كبيرة الحجم في الهواء الطلق، وعمل مجموعة من المسارات التي تغطي الموقع، وحفر قنوات مائية وبحيرات ترمز إلى نهر النيل من المنبع إلى المصب، مع مجموعة الجنادل التي توضح العلاقة بين النهر والقرية النوبية، بالإضافة إلى مسرح، ومدرج مكشوف لعرض الفلكلور النوبي، وكهف عرضت على جدرانه مجموعة من رسومات لحيوانات ما قبل التاريخ. تبلغ مساحة المتحف 50 ألف متر مربع ويتكون من ثلاث طوابق تضم قاعة العرض الرئيسية وحجرات التصوير والميكروفيلم وإدارة المتحف والخدمات، ومركز المعلومات وقسم للأنشطة التعليمية الخاصة للطلاب».

وأهم ما يميز مجسمات المتحف أنها تحكي تفاصيل الحياة اليومية للأسرة النوبية، فنجد مجسما لأحد المشايخ وهو يعلم الصبية الصغار والذي يعرف عند المصريين بـ«الكتاب»، ونموذجا آخر للمرأة النوبية وهي تساعد زوجها في حرس الأرض الزراعية، وآخر للمرأة النوبية وهي تقوم بأعمال المنزل من طهي، وتنظيف.

مدير المتحف النوبي الدكتور أسامة عبد الوارث أكد أن الأسس التي قام عليها متحف النوبة «هي عرض مراحل تطور الحضارة والتراث النوبي، وتوضيح الصفات المميزة لسكان النوبة خلال العصور التاريخية، وترجمة الحضارة النوبية وما يرتبط بها من عناصر ثقافية، وتوضيح إسهاماتها في الحضارة المصرية، علاوة على دور المتحف كمركز للدراسات النوبية والمتحفية للعالم العربي والقارة الأفريقية.

وقال عبد الوارث لـ«الشرق الأوسط»: «إن المجموعة الأثرية تشكل الجزء الأكبر من المتحف، كما يحتوي على قاعات خاصة للدراسات الأنثروبولوجية والأثنولوجية للتأكيد على العناصر المميزة لشعب النوبة من الناحية الجغرافية والاجتماعية والثقافية، ويتضمن برنامج العرض المتحفي قسما خاصا لعرض خرائط وصور التكوين الجغرافي للمنطقة والذي يشمل التطور التاريخي لبلاد النوبة، والدولة الوسطى، والمملكة النوبية، والدولة الحديثة، والأسرة الخامسة والعشرين النوبية، والوجود المروي في النوبة السفلى، وعصر الأهرام النوبية، والعصر المسيحي النوبي، والعصر الإسلامي». وأضاف عبد الوارث أن «المتحف صمم ليكون مركزا حضاريا للزائرين، ومعهدا علميا للمتخصصين».

وأضاف أن العمارة التقليدية المحلية النوبية لعبت دورها في معالجة وتصميم واجهات المتحف، حيث استخدمت المفردات والجمل المعمارية للتراث المعماري النوبي في معالجة الشبابيك والبوابات وزخارف الدراوي، كما أشبع التصميم على المشروع نوعية المباني التذكارية العامة من تشكيلات نوعية كبيرة في بحور واسعة لعناصره الرئيسية، مع تبسيط الكتلة من الخارج وتقرير المواد المناسبة في هيكل خرساني وحوائط خارجية مفرغة مكسوة بالحجر الرملي.

وأوضح عبد الوارث أنه تم إقامة متحف آخر ملحق بالمتحف النوبي في الهواء الطلق هو متحف فريد من نوعه في العالم بأسره لاحتوائه على عناصر مختلفة تعكس صورا من حياة النوبيين تتمثل في المقابر الصخرية التي تعكس حالة المتوفى النوبي البدائي في مرحلة ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى المجرى المائي، حيث يمثل صورة حية لنهر النيل بشلالاته وانحداره ومزروعاته على الضفتين.

وأشار إلى أن متحف الهواء يضم نموذجا للمسكن النوبي بكل عناصره وتصميماته التي تتناسب مع طبيعة المناخ من حيث المساحة والاتجاهات، فنجد على سبيل المثال مناطق المعيشة تصمم لتكون في مواجهة الجنوب والغرب، وذلك للاستفادة من الشمس على قدر الإمكان في شهور الشتاء الباردة، أما في شهور الصيف فكانت حوائط غرف المعيشة تصمم لتكون عالية حتى توفر مساحة كبيرة من الظل، واختيرت مادة بناء المنازل من الطوب اللبن بما يتناسب مع حرارة الجو في النوبة، وكل منزل يضم «حوشا» سماويا تحيط به عدد من الغرف يصل عددها إلى إحدى عشرة غرفة أو أكثر، لها أسقف عبارة عن قبو أسطواني أو سطح مغطى بزعف النخيل، وهي المنازل التي تحكي مكونات الحياة الاجتماعية لقبائل النوبة، حيث تتكون كل قبيلة من عدد من الأسر، ويقسم النوبيون أنفسهم إلى جماعات ففي الشمال يسكن «الكنوز والعليقات والفاديجا»، بينما يسكن في الجنوب «الدناقلة والمحس»، كما يوجد اثنتان من اللهجات لأهل النوبة، فمن ناحية يتحدث الكنوز في الشمال ماتوكي لغة يفهمها بالتبادل أهل دنقلة في السودان، فقد كانوا قديما جماعة واحدة تفرقت جغرافيا في مرحلة معينة من التاريخ، حيث إن الدناقلة هم الجماعة الأكثر عددا، ومن ناحية أخرى يتحدث الفاديجا النوبي اللغة نفسها التي يتحدثها المحس، فالجماعتان قريبتا الصلة بعضهما من بعض، إلا أن المحس ينتمون إلى الجماعة النوبية السودانية التي تسكن مباشرة في جنوب مصر.

وعن أشهر المشاهد والقطع التي يضمها المتحف النوبي، يقول عبد الوارث: «المتحف يضم هيكلا آدميا يرجع تاريخه إلى 17 ألف سنة قبل الميلاد إلى العصر الحجري القديم، وكان الجسم مدفونا في فجوة خشنة من الرمال مستلقيا على وجهه ورأسه في اتجاه الشرق في منطقة وادي الكوبانية شمال غرب أسوان. بالإضافة إلى أنواع كثيرة من أدوات الصيد عبارة عن حصى وحجارة كانت تساعد النوبي على اصطياد فريسته من الحيوانات، وأسهم ودروع كانت تستخدم في الحروب». ويضيف: «يضم المتحف كذلك نماذج مجسمة تحكي حياة النوبيين في النوبة القديمة، وتعطي صورة للصبر والتضحية من جانب أهل النوبة الذين حاولوا الحفاظ على قيمهم وموروثاتهم إلى حد كبير في المجتمعات الجديدة التي انتقلوا للعيش فيها، حيث يحكي المتحف الحياة اليومية للأسرة النوبية، وفيها يقع عبء الأعمال المنزلية على المرأة، ففي الصباح والمساء تقوم النساء بحمل إمدادات المياه من النهر بينما تقوم بجميع الأعمال المنزلية العادية كالخبز، حيث تقوم بخلط الدقيق المطحون حديثا بالملح والماء ثم تضع العجين الذي يتم خبزه يوميا على (الدوكة)، وهو عبارة عن صاج من الحديد أو الطين، كما تقوم المرأة النوبية بعمل أطباق ملونة رائعة الجمال مغزولة بسعف النخيل وتستخدم في حمل البلح والأطعمة الأخرى، وتزين معظم البيوت النوبية بهذه الأطباق الملونة، وتقوم المرأة النوبية أيضا بعمل الأواني الفخارية والمزينة بالنحت والنقوش على الطين والمزخرفة بالطلاء».

وأشار إلى أن المتحف به نموذج مجسم لساقية أو عجلة المياه التي تستخدم في ري الأراضي الزراعية حيث يقودها ثور، وتستطيع ري خمسة أفدنة في الشتاء وثلاثة في بداية الصيف وواحد عندما يكون منسوب المياه منخفضا، وتعمل الساقية أكثر من 20 ساعة في اليوم عن طريق «ثور» يوجهه صبي صغير، كما يوجد أيضا نموذج مجسم من «الشادوف» الذي استخدم في عصر الدولة الحديثة ويعمل يدويا، ويعتمد على فكرة الثقل والرافع ويستطيع ري نصف فدان، وعادة ما يستخدم الشادوف لري الأراضي المزروعة بالخضراوات في فصل الفيضان.

وأضاف أنه يوجد في المتحف أنواع كثيرة من الحلي والمصوغات النوبية ومعظم تصاميمها وزخارفها مستوحاة من الرموز الإسلامية المتمثلة في رمز الهلال والنجمة، التي ظهرت مع دخول الأتراك إلى النوبة عام 1520، وفي مقدمتها الحلي الذهبية على شكل هلال ونجمة مستوحاة من العلم التركي، وكانت في البداية من الفضة ثم أصبحت من الذهب، وكذا الحلي المصنوعة من الخرز، والأساور المصنوعة من العاج أو العظم وكذلك الخلاخيل الفضية.