نسخة جديدة للغياب المريع للسينما العربية

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا الدولي

«عندما كنا شيوعيين».. فيلم لبناني خارج المسابقة
TT

هناك سمات مشتركة، كما فوارق كثيرة، في البيئة الثقافية لشعوب جنوب شرق آسيا. فالصيني ليس كالياباني، وهذا ليس كالتايواني أو الكوري، والكوري ليس كالكمبودي لا في اللغة ولا في الثقافة الوطنية من بين اختلافات أخرى. رغم ذلك، يمكن التأكيد على وجود ثقافات مشتركة خصوصا بين الدول الأكثر تقدما صناعيا. أو، بالأحرى، هذا التقدم الصناعي يفرز تلك الملامح المشتركة التي يتقدمها الفن السابع. السينما اليابانية والصينية والكورية والتايوانية تتفاعل فيها صفات كثيرة تلزم المطلع باحترام خصائص كل منها في الوقت الذي لا يستطيع إلا أن يلحظ فيه نسيجا من التاريخ الإقليمي الواحد والكثير من العادات (والجوانب الاجتماعية) المتشابهة. والمثير في الأمر أن الدول الأربع (خصوصا الثلاث الأولى منها) هي في نشاط سينمائي حميم وتنافس صارم لأجل إنجاز سينما تتقدم على سينما الجارة المنافسة.

وإذا كان الكثير مما تراه شاشات المهرجانات العالمية من أفلام صينية وكورية، والكثير مما يرسل إلى هوليوود لاختيارات «الغولدن غلوب» أو «الأوسكار»، هو اليوم أفلام تغزل في التاريخ بعيدا عن الواقع لكي تستوحي منه أفلام «سوبر هيروز» مثالية مليئة بمشاهد القتال المضخمة، فإن اليابانية هي الأكثر توازنا مع كثرة ما تنتجه من أفلام درامية كما مع معينها من سينما الأنمي التي لم تحظ بما تستحق بعد من عناية النقاد العرب.

وهناك الكثير مما يقال إعجابا بالسينما اليابانية غير منشور في الصفحات التي خصصتها مجلة المهرجان الصادرة يوميا بالإنجليزية والإيطالية بعنواني «فاراياتي.. فينيس نيوز»، فهي ذات التاريخ الفني الأعرق بين كل سينمات المنطقة، ولو أن تاريخ انطلاقها كأفلام صامتة وعروض قريب في تلك الدول الثلاث من بعضه بعضا. والتاريخ الفني يقصد به العزم على الخروج مما يطلبه الجمهور السائد إلى مرحلة من الاكتشاف والرؤية الذاتيتين. ومن مولدها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر وإلى أواخر الخمسينات، بقيت السينما اليابانية حكرا على أصحابها، لكن مهرجان فينيسيا هو الذي اكتشف جواهرها قبل سواه من المهرجانات ونشرها عالميا.

قارن هذا الزخم الذي تشترك به السينما اليابانية مع جيرانها، بالسينما المصرية وجيرانها، تكتشف أنه في الزمن الحالي تبدو كل سينمات المنطقة العربية (في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) كما لو أنها اكتشفت السينما منذ نحو عشر سنوات. طبعا كلنا نعرف التاريخ الطويل الممتد لنحو مائة سنة من الإنتاجات الغربية في الأراضي العربية، ونحو سبعين سنة من وتيرة السينما المصرية، ثم المغربية والتونسية واللبنانية والسورية كل بحصص مختلفة تتقدمها حصة السينما المصرية بلا ريب. هذه المعرفة تخولنا بالطبع النظر إلى الوضع الحالي بتساؤل حارق حول كيف كانت، وكيف أصبحت، ولماذا هذا الانتحار برمي السينما العربية بنفسها من مكان مرتفع!.. أين هو الثراء الثقافي المتنوع والمختلف والمشترك أيضا الذي نعلم أن الحياة العربية تحتويه في ضفتيها؟ أين هي الإبداعات الثقافية والفنية التي تجعل من الدولة المنتجة صاحبة مكان خليق بها في المهرجانات الدولية؟ ثم أين هي الإنتاجات المشتركة التي كان يمكن لها رفع مستوى أعمال ليس بالإمكان إطلاقها محليا؟

فيلمان في المهرجان ذي الألف فيلم (مجازيا)، واحد لبناني بعنوان «كنا شيوعيين»، والآخر من مصر بعنوان «ظلال»، لا يكفيان حتى لفتح النافذة المطلة على هذا العالم العربي الشاسع فتحا جزئيا. ماذا تقول حين تسأل المدير الفني لمهرجان لوكارنو إذا ما كان لديهم مبرمج للسينما العربية فيسأل بالمقابل «أين هي؟».

كيف تلوم مدير مهرجان فينيسيا على أن دورته الحالية أضعف من دوراته السابقة على صعيد وجود أفلام عربية فيكرر لك الأسطوانة المعروفة «سعينا ولم نجد ما يستحق العرض» - وتعلم أن معه حق؟! كيف لا يتجه المخرجون العرب إلى الشركات الأجنبية بحثا عن التمويل؟.. ولماذا لا يزال البعض جاهزين لاعتبارهم عملاء يبيعون أنفسهم للعدو الذي «يشترط لتنفيذ أفلامهم أن تحوي ما يشوه ما هو إسلامي أو عربي»؟.. أي عالم يعيش فيه أولئك الجاهزون للنيل من سينمائيين يجدون في التمويل الغربي الباب الوحيد لتحقيق أعمالهم؟ ولماذا عوض التشكيك لا يتم الالتفات إلى تقاعص المنتجين والقطاعات الثقافية والاقتصادية والصناعية عن دعم تلك الأعمال؟

كلها، وسواها، أسئلة تبقى عالقة في البال، تنتقل بصاحبها مع انتقاله من مهرجان إلى آخر. إذ ليس صدفة ولم يعد الأمر استثنائيا أن تكون المهرجانات متخمة بأعمال من كل أوروبا وكل جنوب شرق آسيا والكثير من الدول اللاتينية ومن أستراليا ناهيك عن الولايات المتحدة، وبعد ذلك هوة شاسعة وفضاء فارغ رهيب قبل أن تطالعنا أضواء خجولة للسينمات الأخرى ومنها العربية. ليس أمرا صدفيا أو استثنائيا، لكنه يبقى أمرا عجيبا.