مهرجان فينيسيا يشعر بلهيب مهرجان تورونتو

مع اقتراب انتهاء أيامه السينمائية

لقطة من فيلم «فينوس أسود» للمخرج عبد اللطيف كشيش
TT

* «فينوس الأسود» فرنسا ـ المسابقة

* ضعف مهرجان تورونتو هو قوته في الوقت نفسه، ذلك الضعف هو أنه ليس مهرجانا شبيها بالمهرجانات الثلاثة الكبرى، وهي برلين وكان وفنيسيا، ولا بما يأتي بعدها، بل هو مهرجان قائم على عروض، ولا شيء سوى العروض، بلا مسابقة وبلا جوائز وبالتالي بلا توقعات تشغل بال أحد. هناك قسمان فيه: أفلام برميير يعرضها قبل سواه حول العالم، وأفلام سبق لها أن عرضت في مهرجانات أو مناسبات سابقة. وهذان القسمان ليسا مبرمجين على أساس التمييز بينهما، بل يختلط برنامجهما، وأتحدث هنا بخبرة الأعوام التي قضيتها في ضيافته طوال التسعينات وعدة سنوات من هذا العقد، مع عروض احتفالية بالنسبة إلى تلك الأفلام التي لم يسبق عرضها من قبل مخصصة للمدعوين، ويؤمها السينمائيون المشتركون في صنعها.

هناك ما هو منهك في الكثير من أفلام هذه السنة: المشاهد الطويلة التي تعايش جوا معينا وتحصر نفسها فيه بقدر ما تحاصرنا به. فيلم الأمس (أول من أمس) «الخندق» هو مثال على هذا النوع من الأفلام حيث اللقطة هي المشهد، وفيلم المخرج عبد اللطيف كشيش (أو كشاش كما يؤكد أحد الزملاء) هو فيلم آخر. هنا المشهد ليس من لقطة واحدة ولو أنه صور على هذا النحو، بل يمر بقطع متواصلة في غرفة المونتاج بحيث تنتقل الكاميرا في حركتين متوازيتين: عبر حملها باليد والانعطاف والاستدارة والتقدم والتأخر، ثم عبر قطع الحركة الواحدة إلى لقطات عدة. هذا في حد ذاته ليس أمرا جيدا أو مذموما، ونجاحه يعتمد على ما الذي يتم تصويره مما يستحق معه هذا الأسلوب.

عبد اللطيف كشيش مخرج حصد جوائز عدة من فيلمه الأخير «كسكس بالسمك»، وهو فيلم دار حول حياة مهاجر جزائري من الجيل الأول سيفتتح مطعما يقدم هذا الطبق خصيصا فوق مركب راس على ميناء مرسيليا حيث يعيش وعائلته المترامية ومن بينها مطلقته وعشيقته. لكنه على آخر قدمين له في هذه الحياة من دون أن يدري، تسوده مسحة حزن من مطلع الفيلم لها دوافعها ومبرراتها ويؤسس أسلوب المخرج لها صرحا من الحضور الإنساني والواقعي المهم كيفما نظرت إليه.

في فيلم كشيش الحالي «فينوس أسود» تناول لشخصية حقيقية يستعيدها المخرج من صفحات الأمس الواقعية فهو يذهب إلى التاريخ ليقدم امرأة من قبيلة خوي القاطنة في الجنوب الأفريقي. في مطلع القرن التاسع عشر تم إرسالها إلى بريطانيا وفرنسا لكي تقوم بجولة تستعرض فيها زنوجيتها عارية للأوروبيين الذين لم يكن معظمهم الكاسح قد شاهد وجها أفريقيا أسود، فما البال بوجه أنثى وجسدها أيضا؟! يبدأ الفيلم بمشهد مؤسس لكل ما يود الفيلم طرحه من موقف، حيث بروفسور يوضح لزملاء وطلاب نظريته في العنصر البشري الأفريقي المختلف في أوجه كثيرة عن ذاك الأوروبي. أمام البروفسور تمثال يظهر امرأة بأرداف بارزة وثقيلة وملامح زنجية مألوفة. على لوح إلى جانبه صور للأعضاء الجنسية لدى المرأة الأفريقية وأخرى للمرأة الأوروبية لكي يبين الفرق، ثم رسومات لهياكل متعددة وجرة زجاجية تحمل أعضاء تم استئصالها من امرأة زنجية لتؤكد ما يذهب إليه من حديث، هذا قبل أن نعود إلى الوراء ونبقى في سلسلة أحداث ستؤدي إلى كيف انتزع البروفسور تلك الأعضاء ليثبت بها مقولته العنصرية المحملة بالفكرة القائمة على التميز العرقي الأوروبي عن الزنجي المنحدر من جذور حيوانية - حسب إشارته.

صاحبة التمثال هي امرأة، تحمل اسم ساراك ويطلق عليها أحيانا اسم سارا، تم شحنها من جنوب أفريقيا إلى لندن عام 1810 حيث يتم عرضها على خشبة مسرح صغير للعموم من نساء ورجال وأطفال جاءوا «يتفرجون» على ذلك المخلوق الأنثوي «المتوحش» كما يقول مقدم البرنامج وهو يمسك بالسوط ويضرب الأرض كما يفعل أولئك الذين يوجهون النمور في السيرك. وهو سيرك بشري ذاك الذي يتم تقديمه، وهو مهين يفرض علينا المخرج متابعته حتى نهايته (ويعود إليه في مقتطفات فيما بعد). بطلة الفيلم في نهاية الأمر هي الضحية وليس المشاهد طبعا. إنها تعامل كحيوان وتؤدي «نمرة استعراضية» مهينة لها وليس هناك من يمنحها حق التعامل كإنسانة. تعيش في رتابة وتتحرك بصعوبة لتؤدي ما يطلب منها من دور لتسلية جمهور لا يكن لها سوى نظرته للغريب والمستهجن. لكن كشيش لا يلوم الجمهور بقدر ما يلوم أصحاب «البزنس» المتاجرين بها. وسوف نراها تنتقل من عهدة ذلك الرجل الأول الذي يدافع عن نفسه، في محكمة بالتأكيد، على أن ساراك ليست عبدة أو رقيقة بل شريكة في عمله، إلى عهدة رجل آخر أكثر توحشا ينزع عنها آخر ما تبقى من حقوقها كإنسانة. هذا قبل أن تلجأ، وقد أصبحت في باريس، إلى دخول بزنس آخر هو العهر في منزل «مدام» فرنسية يضم نساء من أماكن عديدة، ثم إلى المهنة ذاتها تلتقط زبائنها من الشارع إلى أن تموت في دارتها الصغيرة. هنا ننتقل مجددا إلى البروفسور الذي يحصل على الجثة ليكمل أبحاثه التي لم يستطع إكمالها حين طلب من ساراك خلع كامل ملابسها فرفضت حين كان لا يزال متاحا لها قدر من الكرامة.

إنها قصة حزينة مأخوذة من الواقع لا ترفع سوطها عن ظهور الإنسان الأبيض ومع كل ضربة تظهر القدر الكبير من الحس والفعل العنصريين اللذين سادا معاملته لحقب تاريخية مختلفة. هذا كله جيد ومثير للاهتمام ويصنع فيلما لا يمكن التغاضي عما يوعزه من قوة تأثير وحدة نقد. لكن هذا كله لا يعني أن الفيلم جيد كعمل سينمائي.

المشكلة ذات بضعة رؤوس، أولها أن هذا الكم من النقد للمفهوم العنصري للإنسان الأبيض ظهر في الدقائق العشر الأولى من الفيلم، تلك التي أمضيناها في صحبة البروفسور وتلامذته. ثم تأكدت في الاثنتي عشرة دقيقة الأخرى التي تابعنا فيها التقديم اللاإنساني الأول على المسرح. بعد ذلك، سيعاود المخرج تكرار المفادات جميعا مرة بعد مرة من دون وجود مادة قصصية فعلية. ما يتغير هو المكان: بعد المسرح الوضيع هناك البيوت الأرستقراطية البريطانية والفرنسية وفي مكان ما مشهد المحكمة، وهو الوحيد المختلف عن طينة المشاهد الأخرى باستثناء أنه في النهاية يمنح مباركته للمعاملة التي تتعرض إليها تلك الزنجية بحجة تصديقها ادعاءات «سيدها». أما أن هناك أحداثا تشكل اتجاهات مختلفة، أو أن هناك قصة كاملة تروى فإن عبد اللطيف كشيش لا يوفر، ولا هو بوارد، إضافة مفارقات توسع من إطار ما يقع إلا في حدود ضئيلة جدا.

عبد اللطيف يضن على مشاهده أيضا بحرية الانتقال من مشهد إلى آخر بعد استيفاء المشهد الأول كل ما يريد قوله. هذا يحدث عادة قبل انتهاء ذلك المشهد. إنه يعمد إلى الاستطراد فيه. طبعا يشغل المشهد بأسره بأسباب وعناصر سرد لتفاصيل كثيرة، لكن حتى هذه تتكرر وكان يمكن لها أن ترد في غضون دقائق أقل لما يبدو تطويلا من أجل التطويل.

على عكس فيلمه السابق، سيحمل هذا الفيلم إلى جانب الضجة التي ستثار، وجهات نظر أقل إعجابا بوجهة المخرج الفنية. لكنه اختيار خاص ينتمي إلى أسلوب من الصواب الدفاع عنه لمن لا يرى المسألة من ذات الزاوية المشار إليها هنا.

* أخبار من داخل وخارج المهرجان

* بين ما شوهد من أفلام خارج المسابقة فيلم مارتن سكورسيزي للمخرج (الراحل) إيليا كازان. نحو ساعة من درس في السينما الكازانية تحت عنوان «رسالة إلى إيليا» صاحب أفلام بارزة في خمسينات وستينات السينما الأميركية من «فيفا زاباتا» و«على سقف صفيح ساخن»، و«على رصيف الميناء» إلى «شجرة في بروكلين» و«الوعد» و«أميركا.. أميركا»، من بين أخرى. الفيلم، يخبرنا أحد مسؤولي شركة «فوكس» المنتجة أنه سيتم عرضه على الشاشات الصغيرة خلال هذا العام (في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني تحديدا) وفي الوقت ذاته سيتم إطلاق أسطوانة لمجموعة من الأفلام التي لم يسبق أن وزعت «دي في دي» من قبل. مما يقوله سكورسيزي في فيلمه أن كازان كان ذا تأثير كبير عليه، مضيفا: «هذا الفيلم تطلب سنوات كثيرة. سألت زميلي كنت جونز أن يشاركني العمل فيه وأمضينا وقتا طويلا نتطلع إلى أفلام كازان ونعاينها. أشعر بأن الفيلم الذي أنجزناه يتحدث عن سلطة الفن. في هذا الشأن، سلطة فن إيليا كازان».

* موقع مجلة «ذا هوليوود ريبورتر» ينفرد بخبر مفاده أن الممثلة نتالي بورتمان تلقت عرضا من المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون («أطفال الرجال») للاشتراك في فيلمه المقبل «جاذبية» حيث ينوي المباشرة في تصويره قريبا ووصف بأنه من النوع الملحمي. كانت أنجلينا جولي وافقت على بطولة الفيلم لكنها انسحبت منه لخلاف مالي. بورتمان تنتقل من مهرجان فنيسيا، حيث حضرت عرض فيلمها الجديد «بجعة سوداء» إلى تورونتو لحضور عرض الفيلم هناك أيضا.

* رسميا، تم الإعلان عن أن صادرات إيطاليا من الأفلام المنتجة ارتفع في السنوات الأربع الأخيرة. مجلة «فاراياتي» تقول إن عدد الأفلام المنتجة في إيطاليا من عام 2006 إلى نهاية العام الماضي بلغ 357 فيلما، تم بيع وتوزيع نصفها تقريبا خارج الحدود الإيطالية. لكن الإحصاءات تقول إن عائدات هذه الأفلام من جولاتها العالمية لا تزال تشكل نسبة محدودة بالمقارنة مع التكلفة لا تتعدى 8 في المائة. هذا إذا ما قارناه بما نعرفه من أن عائدات السينما الفرنسية من توزيع أفلامها العالمية تصل إلى نسبة 20 في المائة مما تتكلفه أفلامها، يتبدى كفارق واضح.

* الممثل والمخرج ميشيل بلاشيدو عرض فيلمه الجديد «زهرة الشر» في مسابقة المهرجان، وهو سعيد بذلك، لكنه أشار في مؤتمره الصحافي إلى أنه لولا شركة «فوكس» الأميركية لما استطاع إنجاز هذا الفيلم، فالشركة عبر ذراعها العالمية هي من انبرى لتمويل هذا الفيلم بعدما امتنع المنتجون الإيطاليون عن ذلك.

* الأفلام ذات القدر الأعلى من استحسان النقاد، حسب إحصاء يومي تنشره مجلة «فينسنيوز»، ويشمل 20 ناقدا غربيا وناقدا عربيا واحدا (سمير فريد)، يشير إلى أن الأفلام الثلاثة الأكثر استئثارا بالقبول حتى الآن هي: «بعد التشريح» الأرجنتيني، و«التحري دي» الصيني، و«العاطفة» الإيطالي.