ماذا لو امتد العمر بالنجمة رومي شنايدر؟

أنهت حياتها حزنا على ولدها الذي انغرز حديد السياج في صدره

احتفلت بخطبتها إلى آلان في 22 مارس 1959، بحضور ممثلي الصحافة العالمية
TT

طلبت صحيفة «الفيغارو» الباريسية من عدد من الكتاب المعروفين أن يتخيلوا المصير الذي كانت ستسير عليه حياة عدد من المشاهير الذين انقصفت أعمارهم في فترة مبكرة، لو أنهم عاشوا حتى بلغوا سن الشيخوخة. وكان من نصيب الروائي إيتيان دو مونتيتي أن يكتب «الحياة المتخيلة» للممثلة رومي شنايدر التي غابت عن الدنيا عام 1982 وهي في الثالثة والأربعين من العمر وفي أوج شهرتها. اختار الكاتب أن ينفي رومي شنايدر إلى إمارة آلتيم نوفرا الصغيرة في أوروبا، التي يعود زمن إنشائها إلى القرون الوسطى، وأن يجعلها تغير اسمها ليصبح روزماري (وهو الاسم الحقيقي للممثلة)، وأن ترتبط بصداقة جميلة تنتهي بالزواج من أمير المنطقة، صاحب السمو كارل هينز، وأن تسدل الستار على ماضيها الفني وشهرتها كنجمة، وأن تنسى الفواجع التي لاحقتها ودفعت بها إلى التواطؤ مع المهدئات لكي تهرب من أحزانها. هل فك الماضي مخالبه عن رومي شنايدر؟ وكيف سيكون موقفها حين ترى في مكتبة الإمارة، ذات صباح، صورة قديمة لها من فيلم «الجحيم» منشورة على غلاف مجلة «بونت» الألمانية؟ ما الذي ذكرهم بها؟ ومن أين جاءوا بهذه الصورة التي تبدو فيها شاردة وهي تمسك سيجارة في يدها؟ ولماذا هذا التحقيق الصحافي الذي يكشف الأسباب الحقيقية التي حالت دون أن يكمل المخرج هنري جورج كلوزو تصوير ذلك الفيلم عام 1964؟

هل كانت رومي شنايدر تحتاج إلى غلاف «بونت» أو إلى سلسلة موضوعات الصيف في «الفيغارو» لكي تعود إلى ذاكرة الفرنسيين؟ إن الكتب ما زالت تصدر عنها رغم مرور أكثر من ربع قرن على العثور عليها جثة هامدة في الشقة التي أعارها لها المنتج التونسي طارق بن عمار، في باريس. كما أن الشاشة الصغيرة ما زالت تعرض أفلامها، وقد نزلت إلى الأسواق علبة تحتوي على أسطوانات مدمجة لأشهر تلك الأفلام. ويبدو أن الجمهور قادر على التعلق بصورة الفنانة أو الفنان الذي يموت مبكرا، إذ تتحول الحكاية إلى ما يشبه الأسطورة التي ترويها الأمهات لبناتهن. وتقول الحكاية إن رومي ولدت ممثلة «في اللفة» لوالدين من الفنانين، فقد كانت أمها ماغدا شنايدر ممثلة، وكذلك أبوها وولف الباخريتي، ولما رأت هي النور ذات مساء من سبتمبر (أيلول) 1938 في فيينا، اختارا لها اسم روزماري، تخليدا لجدتيها روزا وماريا.

في ذلك العام كانت نذر حرب عالمية ثانية تلوح في أجواء أوروبا، وكان الزعيم الألماني هتلر قد بدأ يهدد أطراف القارة، ولم يكن بمقدور الوالدين الشابين أن يرسما خططا ومشاريع فنية للمستقبل، فقد أوشكت الحياة السينمائية والمسرحية أن تتوقف وهرب الأنس من ليالي فيينا. وكان عمر روزماري شهرا واحدا حين هربت بها والدتها من فيينا التي احتلها النازيون، إلى كوخ ريفي كانت العائلة قد اشترته في جبال الألب البافارية، وهناك لحق الأب بهما ليعيشوا معا، قبل أن يقرر الانفصال عن زوجته. لكن مجيء طفل جديد هو وولفغانغ جمع شمل العائلة من جديد، لفترة قصيرة. بعد الولادة بفترة عادت الأم ماغدا شنايدر إلى عملها في التمثيل، وكانت في أثناء غيابها تعهد بطفليها إلى جدتهما ماريا، التي كانت لهما بمثابة أم أخرى. وفي ذلك الجو الهادئ، المنعزل عن الحرب العاصفة بأوروبا، كبرت الصغيرة روزماري التي صارت تسمى رومي، ودخلت المدرسة الابتدائية، وكان طلاق والديها هو الهم رقم واحد في سلسلة حياتها التي ستمتلئ بأكثر من محطة حزن، وقد وجدت نفسها تتعلق بأمها وبأخيها تعويضا عن غياب الأب.

أحست الصبية، وهي في عمرها المبكر ذاك، بالعشق الذي يشدها إلى مهنة التمثيل، فكانت تشارك في العروض التمثلية الدينية داخل المدرسة، أو تتوسط رفيقاتها لتقرأ عليهن مقاطع من الشعر. وبموازاة ذلك كان هناك في داخلها خوف خفي من التمثيل، ومن الأجواء المتشابكة للمهنة التي كانت تعتبرها السبب في انفصال والديها. لكن ماغدا شنايدر وجدت فرصة جديدة للسعادة حين تزوجت من رجل ثري يملك سلسلة مطاعم في ألمانيا والنمسا. أما رومي التي كانت قد بلغت الخامسة عشرة فقد كانت صبية حالمة وذات خيال خصب، فألحقتها أمها بمدرسة للرسم والموضة في مدينة كولون الألمانية. أما النقلة الحقيقية في حياتها فقد جاءت عام 1953، حين اختيرت والدتها ماغدا لتقوم بدور البطولة في أحد الأفلام الألمانية مع المخرج هانز ديب. وكان فريق الممثلين مكتملا، غير أن المخرج كان يبحث عن فتاة صبية تقوم بدور ابنة البطلة. ومن ميونيخ اتصلت ماغدا بابنتها وأخبرتها بذلك، وسرعان ما أخذت رومي أول قطار إلى هناك. ومن بين الكثير من المتقدمات استطاعت أن تسحر المخرج حالما رآها فأعطاها الدور.

تجربها الأولى أمام الكاميرا كانت ناجحة جدا، فمن المعروف أن الوجوه تختلف حسب قابليتها للتصوير، وهذا لا علاقة له بجمال الوجه أو عدمه، فكم من وجوه جميلة تبدو باهتة على الشاشة، على الرغم من أنواع الإضاءة التي يستخدمها المصورون. وقد كان وجه رومي يوحي، منذ البداية، بصلاحيتها الكاملة لمهنة التمثيل وللكاميرا: الأنف المستقيم الشامخ، والشفتان الممتلئتان، والعينان المشروطتان، والجبهة العالية.

ولم يتأخر موعد الصبية المبتدئة مع الشهرة، فقد شاهدها المخرج جوفيال إرنست ماريشكا وأخرج لها سلسلة أفلام عن الإمبراطورة النمساوية إليزابيث دو بافيير، المعروفة بـ«سيسي».

ولما وافقت رومي على تمثيل دور مختلف في فيلم «مونتيني»، تتخلى فيه عن الشخصية البريئة التي عرفت بها سابقا، لم يغفر لها المعجبون بـ«سيسي» هذا التحول. وعاد ماريشكا ليقدم لها عرضا جديدا هو «سيسي في مواجهة قدرها» الذي تم تصويره في أجمل بقاع أوروبا ورصدت له ميزانية ضخمة. وعادت رومي لتحتل المرتبة الأولى في حساب شباك التذاكر، حتى إن الصحافة الأوروبية قالت عنها: «إنها أفضل ما استوردناه من النمسا... بعد الفالس». ولم يقف المنتجون الأميركيون موقف المتفرج، فقد سارعوا بدورهم إلى استثمار هذا النجاح وتحويله إلى «بيزنس»، فاشتروا أفلام «سيسي» وجعلوا منها مسلسلا عُرض في الولايات المتحدة تحت اسم «إلى الأبد يا حبي». وبفضل تلك السلسلة منحها والت ديزني لقب «أجمل صبية في العالم»، وبذلك فازت ببطاقتي سفر لها ولأمها إلى هوليوود. منذ تلك الفترة، فتحت رومي شنايدر صفحة جديدة في حياتها هي الصفحة الأميركية، وبعدها وقعت عقدا مدته ثلاث سنوات مع شركة «بارامونت». ومع حلول عام 1958 كانت رومي على موعد مع حب كبير لعب دورا عظيما في حياتها ومهنتها، فقد اختارها المخرج بيير غاسبار - ويت لبطولة فيلم بعنوان «كريستين»، وكان شريكاها في البطولة شابين جديدين يبشران بمستقبل عريض هما جان كلود بريالي، وآلان ديلون. انتهى الفيلم وعادت رومي إلى النمسا. ولما لم تحتمل الابتعاد عن آلان ديلون طويلا سافرت لملاقاته في بلده، فرنسا. وكان عمرها قد أصبح عشرين عاما. وصرحت للصحف آنذاك: «إن باريس بالنسبة لي هي آلان ديلون قبل كل شيء». لكن ذلك الحب لم يرق للوالدة ماغدا، فسعت الابنة إلى إعطاء حبها طابعا رسميا واحتفلت بخطبتها إلى آلان في 22 مارس (آذار) 1959، بحضور ممثلي الصحافة العالمية، حيث وضع العاشقان في بنصريهما خاتمين من الذهب الأبيض والأحمر والأصفر.

حبهما الذي استمر خمس سنوات، كان دائما مادة خصبة للصحافة، فقد استقرا في بيت خاص، وكانت رومي قد بدأت تعتاد على الحياة الباريسية، كما أتقنت اللغة الفرنسية. لكن قطع علاقتها مع عائلتها وتغيير موطنها والعقود السينمائية الغربية، جعل توازنها يختل، خصوصا بعد أن صارت تحمل ثلاث جنسيات: النمساوية والألمانية والفرنسية.

في تلك الفترة، جاءتها فرصة ذهبية جديدة عندما اختارها المبدع الإيطالي فيسكونتي لتقوم بدور رومينا في مسرحية من تأليف جون فورد. وكان شقيقها في المسرحية هو آلان ديلون. ولكي تستعيد ثقتها بنفسها وتكون بمستوى شريكها، راحت رومي تتمرن بإرهاق كل يوم لتتقن النطق السليم بالفرنسية، ولجأت إلى معلمة للإلقاء. ولما حان موعد الافتتاح كانت باريس كلها هناك بكل شخصياتها وضيوفها المشاهير: إنغريد بريغمان، آنا مانياني، جان كوكتو، إديت بياف، وطبعا ماغدا شنايدر وولفي، شقيق رومي الوحيد. وعندما انتهى العرض ارتمت رومي بين ذراعي أمها، أما آلان ديلون فقد قال لها: «أنت ملكة باريس هذا المساء»، فصرخت من قلبها: «إنني سعيدة... حقا سعيدة».

صرخة السعادة تلك كانت نادرة في حياتها، فقد أعقبتها صرخات لوعة كثيرة. لقد عادت إلى البيت، ذات يوم، لتجد في الصالون باقة ورد من آلان ديلون، مع كلمة وداع. وذهب كل منهما في طريقه لكي تستمر حياتها برتابتها، مد ثم جزر.

في عام 1965 تزوجت رومي شنايدر من الكاتب والمسرحي الألماني الشهير هاري ميين، ومنه أنجبت ابنها ديفيد. وبعد ثماني سنوات انفصلت عن زوجها الذي طالبها بنصف ثروتها مقابل أن يسمح لها بحضانة الولد، ولهذا فقد كان ديفيد هو سلوتها ورجل حياتها، إلى أن تعرفت على زوجها الثاني، دانييل بيازيني، في خريف 1972. وكان هذا الشاب الفرنسي الوسيم قد ذهب ليعمل في خدمتها بعد أن أعلنت عن طلب سائق لسيارتها، وقرع جرس منزلها الفخم في ضاحية «نويي» الراقية، وفوجئ بأن الممثلة تفتح له الباب بنفسها، مرتدية قفطانا بلون الرمان... وكان أول ما لفت انتباهه إليها ذلك البريق العجيب في نظرتها. وكتب بيازيني، في ما بعد، كتابا عنها قال فيه إن نظرتها كانت تبدو وكأنها مكثفة ومقطرة عشرات المرات.

لاحظ دانييل، أيضا، أنها رغم حرصها على المال فقد كانت تنفق بلا حساب على أصدقائها، كما أن ثيابها كانت قليلة لكنها منتقاة بعناية ومن أرقى النوعيات، وهذا بعكس ما كانت الصحافة تكتبه عن خزائن مليئة بالفساتين والمعاطف والأحذية الثمينة. كانت «شانيل» هي دارها المفضلة للأزياء، وأحيانا كانت تشتري فساتين غريبة من «كوريج». وعندما بلغت منتصف الثلاثينات من عمرها أدركت أن عليها أن تغير أسلوب ثيابها وأن تبحث عما يخدم جمالها الطبيعي ولا يطغى عليه. وهكذا انتقلت إلى تصاميم إيف سان لوران. وكان هذا المصمم يضع تحت تصرفها، مجانا، البدلات الفاخرة التي ترتديها في الحفلات الكبرى، من باب الصداقة بينهما.

بعد فترة من العمل في خدمتها أخذ دانييل إجازة طويلة سافر فيها إلى السنغال للاستجمام على الشاطئ الساخن. لكنه بعد ثلاثة أيام وجد رومي واقفة أمامه في بهو الفندق، مع شغالتها، مرتدية قبعة كبيرة من الخوص، وقد قررت أن تتمتع هي أيضا بالشمس الساخنة. وهناك، على رمال أفريقيا، أدرك الاثنان أن ما يجمعهما ليس مجرد علاقة سائق بسيدته، بل نوع من الصداقة والثقة، مثل شخصين متواطئين يفهم أحدهما الآخر، دون أن تكون العلاقة بينهما غراما مشتعلا.

في الصيف التالي، بعد أن أنهت رومي إجراءات حصولها على حق حضانة ابنها، استأجرت بيتا في منتجع «سان تروبيه» لقضاء الإجازة على شاطئ المتوسط. وسافر دانييل مع سيدته إلى الجنوب، وازداد التقارب بينهما بحيث أدركت أن لا غنى لها عنه. وفي ربيع 1975 بدأت رومي تستعد لتصوير فيلم «البندقية القديمة» الذي أصبح، في ما بعد، واحدا من أروع أدوارها على الشاشة. وخلافا للمعتاد، تأخرت عن الموعد الذي حدده لها المخرج ولم تظهر في موقع التصوير، رغم أنها كانت مشهورة بانضباطها في العمل واحترامها للمواعيد. أين رومي؟ تساءل الجميع. ولم يجدوا من يطرحون عليه السؤال سوى سكرتيرها دانييل. ولم يكن المسكين يعرف سبب تأخرها، الأمر الذي أقلق المخرج روبير انريكو. ثم وصلت رومي متأخرة ساعتين. وحال وصولها استدعت دانييل إلى مقصورتها وقالت له سريعا: «كنت لدى الطبيب... لقد قررت أن أنجب طفلا ثانيا».

صار على دانييل أن يعتني بها بدل عنايته بولدها اليافع وبطفلتهما الصغيرة. وفي ربيع عام 1981 شعرت رومي بآلام عنيفة نقلت على إثرها إلى المستشفى الأميركي في باريس وأجريت لها عملية سريعة لاستئصال إحدى الرئتين بعد أن تفشى فيها السرطان. ولما تماثلت للشفاء طلبت الطلاق من دانييل بيازيني الذي حاول إنقاذ الموقف. لكن الضربة القاضية جاءتها من القدر بسبب حادث مروع تعرض له ابنها المراهق. لقد سقط ديفيد من النافذة وانغرز سياج الحديقة في صدره. ولم تعِش رومي بعده أكثر من عشرة أشهر لترحل في مايو (أيار) 1982، تاركة سارة وحيدة مع والدها، ولكي تواصل «لعنة» التمثيل من بعد جدتها ماغدا ووالدتها رومي.