مراكز التسوق الكبرى تهدد المحلات التجارية الصغيرة في غرب البلقان

وسط قلق من انهيار المنتجات المحلية

سوبر ماركت من الداخل («الشرق الأوسط»)
TT

تشهد منطقة غرب البلقان، وبالذات جمهورية البوسنة والهرسك، تحولات متسارعة على أكثر من صعيد. ولقد بدأت مع التهام الشركات الكبرى نظيراتها الصغرى والقضاء عليها، ومن ثم، حتى المهن التي عرفت استقلالا تاريخيا كالنجارة والحدادة والحياكة وغيرها اختفت، أو كادت، لصالح الشركات الكبرى العاملة في هذا الميدان.

حاليا، بدأت المحلات التجارية الصغيرة تئن تحت ضغوط مراكز التسوق الكبرى (السوبر ماركت)، وبعضها أغلق أبوابه فعلا، لا سيما الدكاكين ومحلات بيع المواد الغذائية القريبة جدا من مراكز التسوق الكبرى الحديثة، التي لم تكن قائمة في المنطقة في ثمانينات وحتى تسعينات القرن الماضي.

إنه «تسونامي تجاري» يهدد أصحاب المهن المستقلين في ورشهم، وأصحاب الدكاكين والمحلات الصغيرة في المدن، ولا سيما المدن الكبرى، وإن كان الخطر الزاحف بلغ بعض الأرياف المتقاربة دورها وقراها.

صاحبة محل صغير لبيع المواد الغذائية اسمها عمرة خليلوفيتش، (33 سنة)، قالت لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معها بالبوسنة: «هناك أسباب كثيرة تدفع الزبائن للجوء إلى المراكز الكبرى، في مقدمتها (البريستيج) (السمعة الراقية). فالنسوة يتحدثن عند لقاء بعضهن بعضا بأنهن كن اليوم أو الأمس في (السوبر ماركت)». وتابعت: «حتى صاحبات المحلات الصغيرة يذهبن إلى (السوبر ماركت) للتعبير عن الوجاهة ولكي يراهن البعض من المعارف هناك». وعما إذا كانت هناك أسباب موضوعية تدفع الزبائن لتفضيل المراكز الكبرى، أجابت: «هناك، بلا شك أسباب أخرى غير التي ذكرتها، أبرزها أن أسعار هذه المراكز أدنى من أسعار المحلات الصغيرة، بالإضافة إلى وجود تسهيلات مهمة مثل المطاعم وأماكن للعب الأطفال في هذه المراكز، بينما يقوم ذووهم بالتسوق.. ناهيك بالتعدد الهائل في السلع المعروضة الذي يؤمن للزبون كل ما يرغب فيه».

صاحبة محل آخر لبيع المواد الغذائية اسمها سنيجانا موليتش، (45 سنة)، قالت موضحة: «مراكز التسوق الكبرى أو (السوبر ماركتات)، أسعارها بالطبع أقل، لأنها تبيع بالجملة. ولذا، قل العمل عندنا كثيرا، وأغلب ما نبيعه هو ما يحتاجه الزبون بشكل سريع كالخبز والحليب أحيانا».

وأيدت سنيجانا مالكة محل آخر لبيع المواد الغذائية، اسمها جميلة دجونجيتش، (50 سنة)، فقالت جميلة: «في (السوبر ماركت) يجد الناس كل ما يحتاجونه في مكان واحد، ولكن الزبائن يأتون إلينا عندما يكونون في عجلة من أمرهم... فنحن الأقرب إليهم عند الحاجة السريعة، وهذه الحاجة في صالحنا. فلو كان للزبائن الوقت الكافي للذهاب إلى (السوبر ماركت) دائما لكنا أغلقنا أبواب محلاتنا». وتابعت: «أكثر الأشياء التي يشتريها منا الزبائن... الحليب والخبز والفواكه، بينما في (السوبر ماركت) يشتري الناس في الغالب اللحوم بأنواعها بما فيها الدواجن والأسماك، وكذلك العطور الرخيصة».

وفي رجعة إلى التاريخ، قال جميلة: «مراكز التسوق الكبيرة لم تكن موجودة هنا قبل حروب البلقان الأخيرة، لكنها تنامت كالفطر منذ بداية الألفية الجديدة. وبالتالي، فإن مئات المحلات الصغيرة أغلقت أبوابها بسبب هذا الانتشار غير المنظم وغير المضبوط من قبل الدولة. لقد أضاع أسرا كثيرة كانت تعيش من تجارة المحلات الصغيرة في عموم منطقة البلقان».

أما إبراهيم شتى، (56 سنة)، الذي يعمل منذ 22 سنة في محل تجاري صغير نسبيا (100 متر مربع)، فضرب مثلا لصيقا به على حال تدهور تجارة المحلات الصغيرة، شارحا: «في هذا المحل الصغير كان يعمل 14 عاملا، أما اليوم فأنا هنا بمفردي وتمر ساعات لا يدخل فيها إلى المحل زبون واحد». ثم أضاف: «العدوان الذي تعرضت له البوسنة لم يؤد إلى الإبادة البشرية فقط، بل الإبادة الاقتصادية أيضا. فمعظم ما يوجد في السوق نحو 80 في المائة مصدره إما كرواتيا أو صربيا. ثم إن بقايا الشيوعيين في البلديات ضيقوا على الزبائن الذين يتوجهون للشراء من بعض المحلات لصالح المحلات الأخرى من خلال منع المرور أو الوقوف أمامها، بينما يمكن ذلك في أماكن أخرى، ومَن يخالف يُغرّم». ثم قال: «أعرف عن 50 محلا أغلقت أبوابها، وكان يعمل في تلك المحلات ما بين عاملين وأربعة عاملين هم الآن نهب للبطالة وكل شرورها».

في المقابل، بعض زبائن مراكز التسوق الكبرى، الذين التقتهم «الشرق الأوسط»، ذكروا بعض الأسباب التي تدفعهم لارتياد هذه المراكز بدلا من الشراء من المحلات الصغيرة، ومن بينها «الخيارات الكثيرة الواسعة، والنظافة وحسن الاستقبال»... من دون أي إشارة إلى عنصر «البريستيج». في حين قال آخرون إنهم تعودوا الآن المجيء إلى هذه المراكز التي لم يمر على قيامها عقد من الزمن.. لكنهم ما زالوا يقصدون أحيانا المحلات الصغيرة لشراء الخبز والحليب.

غير أن عمق المشكلة في البوسنة، يكمن في أن معظم مراكز التسوق الكبرى من خارج الجمهورية، ومعظمها متخصص بتسويق المنتجات الغذائية التي تنتجها بلاده كسلوفينيا وكرواتيا وصربيا.. أو حتى ألمانيا وفرنسا وغيرها. وهذه الحقيقة كما قال الباحث الاقتصادي ميرصاد كاريتش: «لا تقضي فقط على اليد العاملة والطبقة الوسطى التي يمثل أصحاب المحلات الصغيرة بعض رموزها سابقا، وإنما تهدد أيضا المنتجات الوطنية للبلدان التي تقام بها مثل هذه المراكز الكبرى». وتابع كاريتش: «خذ، على سبيل المثال، شركة المراكز الكبرى الفرنسية (إنتراكس) أو الألمانية (أوبي) أوا لصربية (درفنو برومات) أو الكرواتية (كونزوم)... إنها وغيرها تبيع منتجات بلدانها في المقام الأول ثم منتجات دول أخرى». وأشار إلى أن «الوعي الوطني مطلوب، فعندما يذهب الناس لشراء مواد من دول أخرى، تقل فرص العمل أمام كثيرين من المواطنين وتتراجع قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها تجاه شعبها». وحمّل كاريتش المواطنين جزءا كبيرا من المسؤولية، قائلا: «عندما يشتري المرء منتجا غير وطني فإنه بذلك يسهم في كساد سلع البلاد وإضعاف مردودها الاقتصادي على النمو العام وعلى إيجاد فرص عمل جديدة، وبالتالي يفاقم أزماتها... ومن يفعلون ذلك عن قلة إدراك يتساءلون مع المتسائلين عن المشكلات التي تحيق ببلادهم، ولا يعرفون أنهم من أسبابها».